اراء وتحليلات

الهدنة وأساطير أخرى

لا سخف مثل حديث الهدنة الذي يعكس حالة استنزاف سياسي للحلّ في سوريا، فمن جملة المسلّحين حتى الذين لم يستثنوا من الهدنة لا يوجد ضامن ولا خريطة لضبط سلوكهم، ولأنهم لا ينتمون لمزاج المعارضة، وبالتالي ما الجدوى من هدنة هي في كل الأحوال ليست في صالح سوريا ، بل هذه الأخيرة تذهب إليها من باب مسايرة السياسات التي تفرضها القوى الدولية المهزومة والتي تنتظر مخرجات اتفاق لم يتم الحسم في مدخلاته.

ففي مضمون دعوى الهدنة تكمن نقيضة: إذا كانت هذه الجماعات المسلحة موصولة باستحقاقات وحسابات لها علافة بقرارات إقليمية ودولية، فهذا معناه أنّ الهدنة هي اليوم مطروحة كخيار بين سوريا وخصومها الإقليميين والدوليين، فتكون مشاركتهم بوصفهم جزءا من معادلة الحرب لا وسطاء سلام. إنّه لا يوجد ما يضمن الهدنة إذا ما فشل لقاء الإستانة، حيث حتى الآن تتجه الأمور إلى فرض أمر واقع والبحث عن معارضة لم يفرزها واقع الأمر بل هي تخضع لصناعة مستحيلة، لأنّ المطروح اليوم هو محاولة اختراع معارضة مفتعلة من صلب واقع مرير صنعه خصوم سوريا وينتمي لمزاج مخطط التخريب. إنّ المعارضة لا تكون مسلّحة، ولكن إن كانوا يحاولون سحق المفاهيم فإنّ المعارضة المفترضة حينئذ ستكون هي التعبير السياسي عن جماعات يفترض أنها إرهابية. فالواقع المسلح في سوريا تهيمن عليه النصرة وتشكيلات القاعدة الأخرى وداعش، بينما لا زال وعاء ما يسمى بالجيش الحر يعاني حالة استنزاف لأن المفارقة اليوم هي أنّ انشقاقات الجيش الحر التي أنتجها مرسوم العفو العام من شأنه أن يجعل المشهد المسلح خالصا لفصائل القاعدة ومن في حكمها. وإذن لم يعد هناك موضوع سياسي بين النظام والمعارضة طالما أنّ ما يسمى بالمعارضة المسلحة تهدف إلى إنشاء خلافة على منهاج السلفية الجهادية.
تستند المعارضة السورية/الصورية على قوة العنف الذي تقوم به القاعدة داخل سوريا، لكنها تصرفه بلغة ديمقراطية مخملية في أسوأ نموذج للنفاق السياسي، أي أنّ رصيد ما يسمى بالمعارضة هو كمية الفتك الذي يتعرض له الشعب السوري في الداخل، وهنا يكون سلاح القاعدة هو المؤسس لشرعية المعارضة المفبركة في الخارج.
المعارضة السورية التي هي في نشوء وارتقاء وردّة بيولوجية مستمرة هي خدعة سيكتشف الرأي العام أنها مجرد خداع بمجرد أن تنتهي قصة الإرهاب في سوريا.حينما نتأمّل حكاية الائتلاف الجديد الناشئ في الرياض ندرك أنّها طلقة فارغة أخرى في تاريخ تناسخ أرواح المعارضة السورية، فممثل هذا الإئتلاف كما كان مفترضا في جنيف الذي أصبح شيئا من الماضي والمتطلع إلى فرض تحديه للضغط على حضوره في الاستانة كان مكثرا في هجاء الرجعية التي عاد ليعمل تحت إشرافها، هذا التلوّن في مسار معارضة فاقدة لكل مقومات الشرعية في ظلّ استهداف الكيان السوري إقليميا ودوليا من خلال الجماعات الوظيفية سواء المسلحة أو الطابور الخامس الموزع على الائتلافات والصالونات المعارضة، من شأنه أن يستنزف سوريا ليس إلاّ، بينما يبدو أنّ هذا بات هدفا للذين أحبطوا أمام انتصارات الجيش العربي السوري..ممثل هذا الإئتلاف صديق قديم مغلوب على أمره ويحمل غلاّ لامنطقيّا للنظام قائم على موقف الكراهية الطائفية..هذا ناهيك عن أنّ اللاّعبين الإقليميين يبحثون عن الضعفاء والتّائهين في ليل البحث عن التموقعات والحظوات..لكن مواقف الناطق المذكور هي مواقف تدخل في خانة ازدواجية المعايير، أي الكائن التقدّمي الذي يخضع للردة البيولوجية ليصبح “طرارا” سياسيا في المدينة الرجعية”:الفاضلة”..تلك حكاية أخرى لها موعد مع تفكيك موقف وخطاب المثقّف الواقع في حالة فجور سياسي مزمن..
سعيت شخصيا إلى القيام بمبادرة دولية لخلخلة البنية العنفية في سوريا والمراهنة على حركة سلام عالمي، غير أنّك حينما تقترب من هذا النوع من النّشاط يجب أن تضع كلّ موازين الوعي التاريخي لظاهرة الحرب والسلم وراء ظهرك لتنسجم من أيديولوجيا رخوة عاجزة عن فهم طبيعة الأشياء، ولكن هذه المبادرة فشلت أو أوقفت المضيّ فيها لأنّها تفرض منطقا يوازي بين سوريا وما يسمونه بالمعارضة المسلحة..ثم ومن خلال تفاصيل الحكاية أدركت أنّ السلام لا يمكن أن يبنى على النفاق وتغيير المفاهيم والتسوية بين الشرعي واللاّشرعي، ثم وبعد هذا وذاك لا أعوّل على من لا يحترم السيادة السورية الكاملة..إنّ النّشاط الدولي المدعو محايدا هو ليس كذلك، بل هو يمتح من قوة الزّيف الذي كرسته الميديولوجيا الضدّ – سورية، وتبنته المؤسسات الدولية التي تخضع لإيحاء خصوم سوريا المستمر..أستنتج من هنا أنه لا جدوى من التعويل على لغة السلام الرّخوة..فالعالم يقوم على الصراع وتدبير تناقضاته بتوازن الرعب، وبأن السلام الحقيقي هو سلام الشجعان..
سوريا تدرك أنها داخل معادلة صعبة وسياق يفرض جملة من الإكراهات. فما يجري حتى الآن ليس هو الواجب بل هو الأمر الواقع الذي يجب التكيف معه بأقصى ما يجب من الحذر، حيث لعبة الدومينو اقتربت من الذروة، وتداخل الأوراق أخرج المشكلة السورية من هذا الاختزال المبسّط. وهي تدرك أنّ عمل النظام السوري المسلح هو دفاعي ومشروع ويجب أن لا يتوقّف ولا يكون موضوعا لشروط وتسويات لأنّ له صلة بسيادة دولة وحقها في الدفاع عن النّفس..يجب التذكير بأنّ بنية النظام الدّولي على ازدواجيته المزمنة لا تملك نفسا كبيرا لتحمّل استحقاقات الإرهاب الدّولي الذي هو صناعة إمبريالية بامتياز..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com