اراء وتحليلات

علاقة خاصة (إلى روح الراحل الكبير قبلان عيسى الخوري)

سألني كثيرون عن سر هذه العلاقة الوطيدة العميقة الآسرة بيني وبين راحلنا الكبير الشيخ قبلان عيسى الخوري? رغم أننا من جيلين مختلفين? ومن بيئتين متنوعتين? ولا تجمعنا علاقة قربى? أو مصلحة? أو عصبية? كما هي حال معظم العلاقات هذه الأيام.
وكنت أقول دائما?ٍ للسائلين: أنها شهامة الرجل التي تلامس شموخ الأرز الذي ولد في جواره? وصلابة تحاكي صخور الجبل الذي نشأ في كنفه? وأصالة ترتوي من صفاء قنوبين التي اعتمر قلبه بإيمانه? وتدفق ينساب كمياه قاديشا التي ارتوى حب?ه للحياة بمائها? ورحابة ممتدة كما البقاع الذي ملأ نصف حياة الراحل الكبير ومشاغله وهمومه? والذي احتفظ حتى رحيله برسالة تحمل تواقيع عشرات الآلاف من أبنائه ترش?حه للرئاسة.
فقبلان بك كان صديق الرؤساء وناصحهم? زعيم الناس وخادمهم? جسرا?ٍ للتواصل بين اللبنانيين? رسالة لبنانية مفعمة بأريج العنفوان وطعم الكرامة إلى كل الأشقاء والأصدقاء.
كان عصيا?ٍ على الزمن حتى قال فيه مر?ة أستاذنا منح الصلح أنه قد أكل على الدهر وشرب.
وكان عصيا?ٍ على المحن أيضا?ٍ? وحين كنا نلتقيه في كنيسة مار سابا في بشري? ذلك الصرح الإيماني العريق? أواسط تموز من كل عام نحيي معه ذكرى وحيده وشهيده شبل? كنا نراه رابط الجأش قوي العزيمة متماسكا?ٍ تخرج من عينيه المشعتين كالصقر دمعة يتيمة يمسحها ويمضي بشوشا?ٍ بابتسامته الساحرة يرحب بالناس ويدعوهم إلى منزله البسيط المجاور لغابة الأرز.
لقد كان الشيخ قبلان من قل?ة من السياسيين الذين باعوا أغلب أملاكهم في سبيل العمل العام? فيما كثيرون حو?لوا العمل العام إلى وسيلة للغنى وتكديس الأموال والممتلكات.
وكان بشكل خاص عصيا?ٍ على كل من يتطاول على الوطن? برموزه ورجالاته ومقاماته وصيغته? فإذا بالوداعة تتحول حينها شراسة? وبالهدوء عواصف? وبالأعصاب المضبوطة أعاصير وزلازل…
كان يؤمن أن لبنان يقوم على الجسور لا المتاريس? على الحوار لا الشجار? على التشاور لا التناحر? على التقارب لا التنابذ? على الانفتاح لا التقوقع? مرددا?ٍ كلمته المأثورة “متشبثون بالأرض كالجذور? منفتحون على من حولنا كالأغصان”? ومن يتشبث بالأرض كالشيخ قبلان وأترابه لا خوف على وطنيته? وعلى إنسانيته? وعلى انفتاحه على الآخر.
ولا أنسى أيضا?ٍ في هذا المجال كلمة قالها الرئيس الجزائري الأسبق أحمد بن بل?ه عام 1997? وهو يغادر منزل الشيخ قبلان في الأرز بعد استقبال حافل أعد?ه له? متوجها?ٍ إلى الديمان ليلبي دعوة غبطة البطريرك مار نصر الله بطرس صفير – أمد? الله بعمره – “أنا مذهول بأمرين: أولهما أرز الشجر الموزع في الغابة الجميلة وأرز البشر المجس?د بقبلان عيسى الخوري”? وكأني به يقول أيضا?ٍ إذا كان أرز الشجر رمزا?ٍ لخلود وطنكم الجميل? فإن أرز البشر رمز لقدرة إنسانكم المتفوق على العطاء والتواصل والانفتاح.
في غرفة نومه المتواضعة في مطيلب حيث كنت التقيه كل أربعاء مع السيدة الفاضلة زوجته تيريز? ابنة أحد رموز بشري المغروسين في ذاكرتها الراحل المونسنيور كيروز? ومع الصديق المحامي الشيخ فؤاد حنا الضاهر? والمحامي السفير جهاد كرم? كنت أرى آية الكرسي معل?قة على الجدار جنبا?ٍ إلى جنب مع “أبانا الذي في السموات”? وكان الشيخ يرددهما كل ليلة قبل النوم كتعبير عن قناعته أن العيش في لبنان لن يكون عيشا?ٍ مشتركا?ٍ حقيقيا?ٍ إذا لم يكن هناك عيش مشترك داخل وجدان كل لبناني وثقافته وقلبه وعقله? أليس هو القائل إن في كل مسيحي لبناني شيء من الإسلام وفي كل مسلم لبناني شيء من المسيحية.
لقد شد?ني إلى بشري العزيزة الغالية أيام الشباب إبداع ابنها جبران خليل جبران? إبداعه في الأدب والفكر والشعر والفن? وشد?ني إليها منذ حوالي العشرين عاما?ٍ إبداع من نوع آخر? إبداع قبلان عيسى الخوري? في السياسة والاجتماع وتقريب اللبنانيين قلوبا?ٍ ونفوسا?ٍ وعقولا?ٍ? فكأن الأول (جبران) مسكون في الثاني? وكأن الثاني (قبلان) هو واحدا?ٍ من نبوءات الأول وتوقعاته.
لم تحالفه الظروف وفي أكثر من مر?ة أن يكون رئيسا?ٍ للبنان? ولكن إخلاصه وذكاءه ولباقته ولياقته “ودهريته” وحبه لوطنه والناس وحكمته جعلت منه رئيسا?ٍ على الكثير من اللبنانيين في الشمال والبقاع? في الجبل والجنوب? وفي العاصمة بيروت التي أحبته بكل جوانب حياتها? كما أحبها بكل جوارحه وقلبه وعقله.
رحم الله فارسا?ٍ من فرسان لبنان والعرب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com