ثقافــة وفنــون

حيفا تحتفي بالكاتب سامي عيساوي

شهارة نت – حيفا / آمال عواد رضوان

أقام نادي حيفا الثقافي أمسية احتفائية بالكاتب سامي عيساوي، برعاية المجلس المليّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ حيفا، وذلك بتاريخ 23-2-2017 في قاعة كنيسة القدّيس يوحنّا المعمدان الأرثوذكسيّة في حيفا، ووسط حضور من أدباء ومهتمّين بالشأن الثقافيّ، وقد تعذّر حضور سامي عيساوي للأمسية بسبب منعه من عبور الحواجز إلى حيفا. تولت عرافة الأمسية عدلة شدّاد خشيبون، وتحدّث عن منجز المحتفى به كلّ من: د. منير توما تناول رواية اللّوز المُرّ ما بين الإيحاءات والإشارات الدالة على محور الرواية، وآمال أبو فارس تناولت كتاب “زوجي لعبة تفاعليّة” وموضوع الكتابة باللّهجة العاميّة ونظرة الكاتب للمجتمع العربيّ من ناحية دينيّة وسياسيّة، وسلمى جبران تناولت كتاب “عيّوش”، وتخللت المداخلات وصلة زجليّة مع الزجّال حسام برانسي، وفي نهاية اللقاء كانت قراءة لرسالة سامي عيساوي، والتي شكر من خلالها الحضور والقائمين على إحياء هذه الأمسية!
مداخلة عدلة شداد خشيبون: يطيب لي أن القاكم تتوافدون دون كلل أو ملل ومن كلّ حيّ وبلد إلى هذه القاعة الجميلة الدّافئة شتاء والمنعشة صيفًا، ويثلج صدري أن أراكم تملآؤون المكان بعبير الثّقافة والآدب. أحبّتي على رزنامتي لمع التّاريخ، وأشرقت شمس جديدة ليكون لنا لقاء بتنا ننتظره أسبوعيًّا، وبتنا نرفض تسجيل المواعيد في ذات السّاعة وذات اليوم، فالشّكر لذاك الجندي المعلوم الاستاذ فؤاد نقّارة وزوجته فراشة النّادي سوزي، فلكما باقة شكر لا تذبل أبدًا ما دام القلب ينبض في هذا الجسد، وللجندي المجهول فضل الله مجدلاني الذي يرتب لنا هذه القاعة ويجمّلها بنقاء استقباله. شكرًا من أعمق الأعماق لكم أحبّتي، فلقاؤنا يتجدّد اللّيلة بكم وبنوركم الآسر.
تعذّر عليه الوصول ليكون بيننا جسدًا، لكنّ حضوره الرّوحي والصّوتي موجود في رسالته، ورسالتنا ستعرف الطّريق إليه بين تنمية بشريّة وإنجازات أدبيّة، وسنطير شوقًا لنتذوق طعمات ثلاث لكتب زيّنت مكتباتنا بجميل حبرها. اللّيلة سيغدو اللّوز المرّ حلوًا، وعيّوش ستلبس لباسًا زاهيًا، أمّا “زوجي لعبة تفاعليّة” سيحلّق عاليًا بين مفردات اللّغة، فكاتبنا سامي عيساوي من مواليد مدينة نابلس 1968،تعلّم في مدارسها، متزوج ولديه اربعة ابناء، حاصل على درجة البكالويوس في الفنون التّطبيقية من جامعة نيودلهي، وعلى درجة الماجستير في الفنون البصرية من جامعة اليرموك، يعمل كمحاضر متفرغ في كلية الفنون الجميلة – جامعة النّجاح الوطنية، وشغل منصب رئيس قسم الفنون التّطبيقية 2014-2016، صدر له خمسة أعمال هي: اللوز المر (رواية)، و 2008عيوش (رواية) 2013، وزوجي لعبة تفاعليّة (مجموعة قصصية) 2016، ولحياة أكثر إبداعًا (تنمية بشريّة) 2014، وتخرج بكفاءة (تنمية بشريّة 2016).
د. منير توما: أديب وناقد يكتب الشّعر باللغتين العربيّة والإنجليزيّة، له العديد من المقالات والدّراسات الأدبيّة التي تُنشر في الصّحف والمجلات، وقد حصل على عدّة جوائز في كتابة الشعر في اللغة الإنجليزيّة من الجمعيّة الدّولية للشعراء في الولايات المتحدة الأمريكيّة، كما حصل على جائزة الإبداع الشعريّ من وزارة الثقافة عام 2010. لا يصل كتابٌ إلى يديه إلّا ويُعانقُ مفرداته ويطويها تحتَ معان أرادها الشّاعر ولم يصرّح بها، وهذا يؤكّد أنّ دور الشّاعر أو الكاتب ينتهى عندما يسلّم ديوانه للقارئ، فكيف إن كان قارؤنا د.منير توما وروايتنا اللّوز المرّ، ما بين الإيحاءات والاشارات الدالة على محور الرواية، فيا تُرى، هل يبقى طعم اللّوز مُرًّا بعد أن ينثر عليه. د.منير توما سكّر نقده، مُبلسِمًا بمفرداته المعهودة جرح المرارة؟
سلمى جبران: من البقيعة الحبيبة إلى حيفا وقصّة عشق للكلمة في رواية عيّوش، متزوّجة ولها ثلاثة أولاد، أنهت دراستها الابتدائيَّة في البقيعة والثانوية في قرية ترشيحا، والجامعيّة في جامعة حيفا على اللقب الأول (B.A ) في الأدب الإنجليزيّ، وعلى اللقب الثاني ( M.A ) في الاستشارة التربويَّة، وأكملت دراستها في التخصّص في العلاج الأسريّ والزوجيّ، أثمرت أربعة دواوين شعريّة أسمتها لاجئة في وطن الحداد، ومؤخرًا صدر لها خارج مدار الذّات.
حسام برانسي: يكتب الشعر من عمر عشر سنوات، وبدأ بالظهور على المنابر وفي محافل الأدب فقط قبل ثلاث سنوات، شارك في عدّة مهرجانات وحفلات زجليّة في عدّة دول أوروبيّة، واستطاع تحقيق نجاحات كبيرة في دول أوروبيّة للجاليات العربيّة.
آمال أبو فارس: من مواليد دالية الكرمل، متزوجة في عسفيا، تعمل مدرّسة للّغة العربية، حصلت على اللقب الأوّل من كليّة دار المعلّمين العرب في حيفا، كما أنّها أنهت اللّقب الثّاني في موضوع “تعليم اللّغات اختصاص لغة عربيّة” في كلية “أورانيم”، ودوّنت تاريخ شخصيّات هامّة من القرية. وفي السّنين الأخيرة بدأت تكتب الشّعر. أصدرت مؤخرا كتابين للأطفال: قصة الحلزونة سناء، وكتاب شوكولاته، وكتابا بعنوان “عسفيا قصة وتاريخ”. أقامت صفحة تواصل على الفيس بوك تحت عنوان: “المنتدى الثّقافي القطري” يكتب فيه شعراء من كلّ الأقطار العربيّة، وتُحرّر صفحة الثّقافة الأسبوعيّة التّابعة لجريدة الحديث، وتحدّثنا عن كتاب زوجي لعبة تفاعليّة حيث ستتناول موضوع الكتابة باللّهجة العاميّة ونظرة الكاتب للمجتمع العربيّ من ناحية دينيّة وسياسيّة.
مداخلة د. منير توما: “اللوز المرّ ” كمفتاح من مفاتيح النصّ عنوان رواية سامي عيساوي: يُمثِّل العنوان في رواية سامي عيساوي ” اللوز المرّ ” عنصرًا هامًّا من عناصر تشكيل الدلالة في القصّة الروائيّة، حيث تتنوّعُ العناوين وفقًا لوظيفتها في القصّة، فعنوان الرواية يُحيلنا إلى مضمون القصّة، فهذا العنوان له طبيعة رمزيّة إيحائيّة استعاريّة، بحيث تُشكِّل رمزيّة “اللوز المُرّ” مَدخلًا أساسيًّا شاملًا، لإيضاح المعاني والمفاهيم وراء أحداث الرواية وشخصيّاتها وأسلوبها.
إنَّ الكاتب يستخدم “اللوز المرّ” في عنوان الرواية كرمز لمعاناة بطل القصّة الذي تمَّ له اجتياز هذه المعاناة بتطهير النفس من خلال عودتهِ للمخيّم، رغم ما مرَّ به من مراحل حياتيّة مُوجعة، ليعيش ذكريات تجربته العاطفية المؤلمة والمخيّبة للآمال في المخيّم، مع محبوبته زوجته الأولى التي تركت له ومعه ابنتها التي تشبهها والتي لم تكن من صلبه، وإنّما كانت ثمرة علاقة غير شرعيّة مع آخر غيره، قبل عقد قرانهِ بها ونسبتها اليهِ موافقًا أو مُرغمًا على ذلك، لغرامهِ وولعه بهذه الزوجة المحبوبة التي كان قد وقع في غرامها أثناء دراستهما الجامعيّة معًا. وحول اجتيازه لهذه المعاناة بعد فراقهما وهجران كلّ منهما للآخر، والعودة أخيرًا إلى المخيّم، مُستذكِرًا ما عبر عليه في تلك الأيّام، باعتبار ذلك تطهيرًا للنفس من مرارة ما مرَّ به ِ من انعدام وفقدان السعادة الزوجيّة.
(loss of conjugal happiness) مع هذه الزوجة المتيّم بها بكلَّ جوارحه، والذي يوحيهِ ويرمز إليه العنوان “اللوز المرّ”، وهو يُعبَّر عن هذه المعاني والأفكار قائلًا في نهاية الرواية: “لن أعيد إنتاج التاريخ بنفس الخيبة القديمة، لأضفي عليها أسماء جديدة. سأمضي للمخيّم ولن أغادره بعد كُرهي له، كي أتوحّد مع وجعي وأصبّ على الأيام القادمة نارًا تحرقها. سأعيد تأثيث البيت والمخيّم الذي عاش فيه جدي من جديدي. أضيء شوارعه المعتمة. أجدّد أبوابه المهترئة، وأعيد تصفيح الجدران الداخليّة للقلوب التي أدماها طول انتظار، أُزوّج من لم يتزوَّج من أبنائهِ وبناتهِ. أملأ حجرات ساكنة بصور جديدة عن العودة والمقاومة والبقاء، وأعيد تصنيف الأولويّات القديمة لنسائهِ، فالنصرُ والهزيمة يأتيان من أرحامهنّ وحليب صدورهنّ، وهذه التي تُشبهك، ولها اسمك ولون عينيك وعدد شعرك وطول قامتك، وعجرفتك المسموح بها لامرأة تملك ما تملكين، هذه التي تقتلني في صباحاتها البرّيّة البريئة، وأرى غدها مرسومًا في صفحة وجهك، هي وجعي الأزليّ الباقي منك، أردّدُ على مسامعها قولَ شاعر تركيّا الكبير “ناظم حكمت”: “أجملُ الأيّام تلك التي لم نعشها بعد..”، لأستنهض فيها المعاني الباقية كلها، أمّا أنا فأجمل أولادي لم أنجبهم منكِ أنتِ” (ص300). وهنا نرى أنَّ الراوي بطلَ القصّة يعتمل في صدرهِ الأمل بأيّام جميلة قادمة يُرَمِّم فيها الماضي، حيث أنَّ هذا المعنى يُذكِّرنا باللوز المُرّ رمزًا للأمل، لكنّه اللوز المُرّ أي الأمل المصحوب بالألم والذكرى المُتجهّمة.
ومن المهمّ أن نشير في هذا السياق أنَّ اللوز يرمز أيضًا إلى اليقظة (wakefulness)، وهي اليقظة المشوبة بأرق الأيّام الخوالي، وبالضيقات التي ما زالت تُراوده جاعلًا منها حافزًا محفوفًا بالذكريات، ليُشكّل اللوز المُرّ رمزًا للإيحاء والانبعاث لأملٍ متجدِّد، قد يأتي بالفرج المبتغى نحو الأحسن على الصعيدين الشخصيّ والعامّ، لا سيّما وأنّ اللّوز المُرّ يُستخرج منه في المجال الطّبّيّ بعض الأدوية الشّافية من جهة، ونوع من المادة القاتلة السيانيد من الجهة الأخرى، فاجتمعت هنا في رمزيّة اللوز المُرّ الناحيتان الإيجابيّة والسلبيّة، بكون رجوعه للمخيّم يُعدّ وفقا للنصّ الروائيّ المقتبس السابق شفاء له، ممّا مرّ به من بؤس وضيق وإحباط، ليُعايش بهذه العودة أملًا بولادة جديدة (rebirth) يتمّ من خلالها التخلّص والشفاء من مرارة تجربته السابقة، لتُشكّل مرارة اللوز رمزًا لمرارة الدواء الشّافي، وممّا يسترعي الانتباه أنّ الكاتب قد أحسن وأجاد بإتيانه بعنوان “اللوز المُرّ”، جاعلًا من اللوز رمزًا لعدّة تيمات أيّ موضوعات مركزيّة في الرواية.
ومن حيث أنَّ اللوز عمومًا يعتبر رمزًا يُمثِّل الحلاوة والسحر الفاتن والأناقة (sweetness, charm , delicacy) فإنَّ نصّ الرواية (ص115) يقرن رمزيّة اللوز الممثّلة للجمال الأنثويّ بمرارة الموت والثبات والتحمُّل في حالات الأسى، وفي ذلك وردت السطور التالية: “القهوة المُعَدّة للمساء لها لون الكرز ورائحة التفاح المحترق، ولها عذاب عينيكِ المتّقد بالشهوة والنشوة والرغبة في الحكم والصيد والقتل، أمّا قهوة اليوم فلها طعم العزاء والجُبن المحترق على موائد الغربة، لها لون الشيب وقسوتهِ، وقد تسلّل إلى حلكة شعرها الغادر”.
ومن الأوصاف التي يُطلقها الكاتب على لسان بطل القصّة الراوي، مُتحدّثًا عن الزوجة الأولى المحبوبة الأثيرة على نفسهِ وروحه قوله بأنّها “كانت تتقن فنّ العزف على كلّ الأوتار، وتتقن فن الرقص على الجراح وبين حبّات المطر، وتعزف كلّ اللغات، وتتقن رسم الكلمات وتعلم أوقات السعادة كلّها، وتُهمل أوقات الصلاة بلا تقريع أو عذاب ضمير، كانت تعلم متى تُعزَف الألحان الجنائزيّة، وتلك التي يتلوها الفرح ومتى يبدأ المطر وفي أيّ اتّجاه تهبّ الريح، ومن أين تُطلّ الشمس، عند قدميها يتفتّح الزهر، ولطلتها يبدأ هدر الرعد ونزول المطر”. (ص117)، ففي هذه السطور أنَّ الكاتب باستعاراته الجميلة يريد أن يوحي ويؤكد أنَّ هذه المحبوبة هي كاللوز بحلاوتهِ ومرارته، باعتباره رمزًا للمنتج الخِصب الذاتيّ (self – productive) وكذلك رمزًا للإثمار (fruitfulness) من حيث التقلّب العاطفيّ الرومانسيّ بإيجابيّاته وسلبيّاته بكافّة أشكالهِ وصورهِ.
يتحدّث الراوي بطل القصّة عن صباح اليوم التالي لزواجهِ من هذه المحبوبة، مُستذكرًا الموقف المتّسم بوجوم الإيحاءات التي يطرحها (ص139): “في صباح اليوم التالي للفرح الأخرس بيننا، لم نتبادل تحيّة الصباح كعادة الأزواج في صباحاتهم الأولى، ولا حتى القُبَل. كان لها تاريخ قديم قرأته في سواد عينيها وظلمة قلبها، عندما تعرّت فجأة أمام نفسها، وتعرّى معها تاريخها. قرأت تفاصيل الزوايا كلها بعد أن غسلت وجهها، وأزالت اقنعتها وكحل عينيها. قرأت التاريخ كله، وقرأت أهمّ فصوله السوداء عندما لم أجد عذريّتها. كان لها تاريخ قديم ممتلئ عن آخرهِ بأنصاف الرجال”.
إنَّ الكاتب قد أصاب الهدف جيّدًا في أخبار الراوي بطل القصّة لنا، عن أنّه قد وجد عروسه فاقدة لعذريّتها في ليلة الزواج، مُتّخذًا بكلّ مهارة وبراعة ترميزًا موفّقًا في كون اللوز يرمز إلى العذريّة والبكارة (virginity)، فمرارة هذا اللوز هي رمز لإحباطهِ وخيبة أمله في طهارة ونقاء زوجته محبوبته، التي يدلّ تصرفها وسلوكها قبل الزواج وعدم الاحتفاظ بعذريّتها على طيشها واستهتارها (giddiness) وغبائها، حيث أنَّ كلّ هذه المعاني هي ما يرمز اليها اللوز، وبالتحديد اللوز المرّ الذي يشير رمزيّا إلى اللاتفكير العقلاني (thoughtlessness)، والمذكور آنفًا هو أحد المؤشرات على ذلك. ومن اللافت في الرواية أنَّ الكاتب قد أوغل إيغالاً كبيرًا، وأسرفَ في الإتيان باستعارات وكنايات جنسيّة وظّفها في أوصافه اللغويّة، كإكثارهِ من ذِكر كلمة الحيض والعادة الشهريّة، وكلمات آخرى تتعلق بالحياة الجنسيّة للمرأة، وهذا يستحضر لدينا كون اللوز رمزًا لفرج المرأة (vulva)، بكلّ إيحاءات وتداعيات ما سبق وأشرنا اليه بشأن الزوجة المحبوبة المثيرة للراوي بطل القصّة، والتي عكّرت صفو حياته كما يصفها (ص138): “في الواقع كنتِ أنتِ الحاجز الماثل أمامي. كنتِ أنتِ مانع الحمل الأبديّ الذي أصابني بالعقم”.
ومن الطريف أنَّ ذِكر العقم هنا مرتبط عند الرجل بالسائل المنويّ (semen)، الذي هو أحد الأشياء التي كان يرمز اليها اللوز في قديم الزمان، فالعقم المذكور في هذا السياق قد يكون بسبب خلل معيّن في السائل المنويّ للرجل الذي من الممكن أن يكون اللوز المرّ رمزًا له، وممّا يجدر ذكره في هذا المقام أنّ اللوز يرمز الى النبوءة (prophecy)، وهذا الرمز قد تمثّل في باب من أبواب الرواية الذي يحمل اسم “جدّتي سيرة ذاتيّة”، حيث ورد في نهاية هذا الباب إشارات كنائيّة عن حالةٍ مستقبليّة، قد تحمل تفاؤلاً معيّنًا للخروج من مرارة اللوز بوصفهِ رمزًا للمعاناة والضيق والتشرّد، الى غدٍ مشرقٍ عزيز يُبشّر بجعل الحلم حقيقة، وبتحقيق الآمال المنشودة في حياةٍ كريمة هانئة بالاستقلال والسيادة والكرامة. وقد جاء في هذا الباب أنّ (جدّته) قد “بقيت وحدها تدير المملكة بحنكة الرجال، حتى يعود الرشد الى ملوكها وحكّامها ووزرائها وقادة ألويتها، ويصحو من غفوتهم الأزليّة . وقتها ستتنازل جدّتي صاحبة العينيْن المعدنيّتين عن الإمارة لأصحاب السيادة، فهي أكثر الناس زهدًا في الإمارة، وأكثرهم إخلاصًا وحُبًّا للوطن، أمّا جدّتي التي تعيش معنا، فلها منّا النزر اليسير من الصفات، تجاهد للبقاء، وتمتصّ البقايا القليلة الباقية من أيّامها في الدنيا، كي تزرع بيتًا للزعتر، أو تقطف حبّة ليمون من حاكورة البيت القديمة”. (ص179).
وأخيرًا، فإنّه يمكن القول أنّ رواية الأخ سامي عيساوي “اللوز المُرّ” هي عبارة عن فسيفساء إنسانيّة، تشكّلت من نسيج توليفة المرأة والرجل، وإطاره المخيّم بكلّ مكوّناته وأجوائه وخلفيّاته، ومحورُهُ الحبّ الضائع الموجع بحُزنهِ وزيفه وشقائه وإحباطاته، والذي يحفِّز وينبئ بإيحاءاته بحُلمٍ مفعم بالإشراقات المتوخّاة، كي يكون الوطن المنشود كاللوز الحلو الخالي من مرارة عالم المخيّم على سبيل التوصيف الرمزيّ، بحيث يكون لوز الوطن حلوًا خاليًا من مرارة عالم المخيّم، بحيث يبدو غريبًا أن نقترح ما جال في مخيّلتنا، من أن يكون عنوان هذه الرّواية “امرأة بطعم اللوز المُرّ”
(woman of bitter almond taste a)، دون أن يكون هناك أيّ تحفّظ وملاحظة على الاختيار الموفق الهادف للمؤلف في وضع عنوان الرواية، ولكنّ مشروع اقتراحنا آنفًا كان من منطلق أنّ المرأة في هذه الرواية كانت المعادل الموضوعيّ (objective correlative) الذي استندت اليه الأحداث، حيث تمَّ من خلال المرأة قراءة واستكناه الإيحاءات والإشارات، والتضمينات (connotations) وراء الكلمات والسطور التي رسمت لوحات ذهنيّة، تشمل مشاهد إنسانيّة أصليّة مأخوذة من الحياة بواقعها المتباين بألوانهِ وناسه، كلّ ذلك بلغة سرديّة قصصيّة شعريّة كما لو كانت قصيدة نثريّة. هكذا كان المخيم عالمًا صغيرًا (microcosm) لعالمٍ كبيرٍ (macrocosm)، هو الحياة بتنوّعاتها الإنسانيّة والعاطفيّة والتأمّليّة التي تضمّ المخيّم كجزء منها يعكس قضيّة الإنسان، الذي تعايش فيها الحنين والعشق وتحدّي الصّعاب والمشاق، وما الى ذلك من معان ٍ كونية شاملة لمشاعر الحزن والفرح والعذاب .
نهنئ الأخ سامي عيساوي ونشدّ على يديه تقديرًا له على هذا الإبداع الروائيّ المتميّز، الذي يستحقّ كلّ ثناء وإطراء مع ملاحظاتنا الأخويّة البنّاءة، ولو أنّ المؤلف قد أولى اهتمامًا أكثر للمراجعة والتدقيق اللغويّ للرواية إملائيّا ونَحويّا، نظرًا لوقوع الكثير من الأخطاء اللغويّة والإملائيّة، التي كان بالإمكان تداركها لو تمّت المراجعة بالدِّقة المرجوّة، آملين أن يتمّ تصحيحها في طبعات قادمة، نظرًا للأهمّيّة في اكتمال تغطية الجوانب التحريريّة للرواية (editing aspects).
مداخلة سلمى جبران: رواية عيّوش – سامي عيساوي: “عيّوش” رواية يتعثّرُ فيها الموت بين الحبّ والحياة، وترفع فلسفةَ الطفولة إلى مرتبةٍ إنسانيّة لا يمكن أن يصلَها الظّالم، بل يقف القاتلُ أمامَها عاجزًا فاقِدًا لإنسانيّتِهِ، مُحوِّلًا الحياةَ إلى موت، وعبثيّةَ الموت إلى حياة وإلى صرخة إنسانيّة تنضحُ بالمعاناةِ المُطْلقة من الموت، فتتقدّسُ الحياة رغمَ الموت. قرأت الفصلَ الأوّل لأنَّ الرّوائي سمَحَ بتجاوُز قراءته، وبعدَ أن أنهيْتُ الرّواية فهمتُ ملاحظتَهُ، وأحسَسْتُ أنّ هذا الفصلَ دخيلٌ على الرّواية ويحِدُّ من دراميَّتِها، وهذا ما شعرْتُ به حينَ قرأتُ الوقفات! تذكِّرُني هذه الرّواية برواية “اسمي آدم” للروائيّ الياس خوري، الذي نجح في إقناع القارئ أنّها مجرّد نشْر لدفاتر آدم دنّون، وكأنّها ليست من تأليفِهِ! اقتباس: ” يحدُّ غزّة من الشّرق الحرب، ومن الغرب بحرٌ ظالم، ومن الشمال الجنون، ومن الجنوب هرم خوفو الأكبر، والسؤال: ماذا يحدُّ المُعتدي من الأعلى؟” الجواب: غزّة، لأن الحياة قيمةٌ عليا، وقصّة طائر الفينيق، التي ورَدَتْ مرَّتَيْن، توحي بهذه الإجابة.
عيّوش طفلة أُنجِبَتْ بالمعاناة وعاشتْ في المعاناة فصَهَرَتْها وجَعَلَتْ أبسطَ كلماتِها أكثرَها عُمقًا وفلسفةً: قالت: “كنتُ أتأرجَحُ بينَ ما أُريد وما يُريدُ منْ همْ حَوْلي” (ص32). “الكبار يقتلونَ جرأةَ السؤال عندَ الصِّغار” (ص36). “كانت أوّلُ لحظة صَحْو تشكِّلُ صدمةَ الحياة بعْدَ تَوَقُّعِ الموت”! (ص40). أمّا “طيورُ الحديد” وما تبِعَها من صُوَرٍ لوصْفِ الحرب، فكانت سُخْرِيَةً مريرة تفوقُ أيَّ شعار أو منشور أو خطاب، حيثُ أبرَزَت التناقُضَ الصّارخ الإيروني بيْنَ مَنْ يعيشُ الحرب وبينَ مَنْ يَحكي عنْها في الخارج: شَجْب-استنكار-تغطية- سبْق صَحَفي وشِعارات أخرى!!! لذلك، فإنَّ إقحامَ الأب في المذكّرات وتحليلاته السياسيّة حَدَّتْ من دراميَّةِ المشاعر التي تصاعدت مع أحلام عيّوش ومجازاتِ خيالِها الفتيّ.
قصّة “سباق الضّفادع” تنطبِقُ على كلّ مَرافِقِ الحياة وبضِمْنِها “الغزّاوي/الأب” الذي يدوِّنُ ويراسِل ويفضَح ما يجري ممارسًا مسؤوليَّتَهُ الوطنيّة، و”الإسكندرانيّة/الأمّ” التي تريدُ الحياة وتريدُ الابتعاد عنِ المَوْت لكنَّها لاقتِ المّوْتْ قبلَ “الغزّاوي”. القصص الرمزيّة التي وَرَدَتْ: “الجزَرة والبيضة”، “عُثمان الأمين”، “الذئب والنَّمِر”، انتهَتْ بأسئلة تبدو طفوليّة بريئة ولكنَّها عميقة وتعبِّر ببساطة عن قوّة وقداسة حياة الإنسان. لا أدري إن كانت الأخطاء المطبعيّة والنَّحَويَّة مقصودة لتوحي بعُمْرِ عيّوش! وأخيرًا، أُنهي بقصّة الثعلب والأسد والحِمار ص (79-80) لأنَّها أخطرُها ويطيبُ لي أُن أُجيبَ عن السؤال الذي تلاها: الحمار لا يزالُ خيالًا واقفًا لأنَّ كلّ أعضائهِ أُكِلَتْ ولم يمُتْ بل نُصِّبَ ملكَ الغابة! بورِكْتَ الكاتب سامي عيساوي، وبورِكَ هذا الكِتاب فهوَ يُعطي مساحة كبيرة للتفكير وليسَ فقط يوثّق!
مداخلة أبو فارس: عنوان رواية “زوجي لعبةٌ تفاعلية” للأديبِ الفلسطينيِّ السيد سامي عيساوي، أُخِذ من عنوانِ القصّةِ الأولى فيه، وأتطرقُ في هذه المداخلةِ لموضوعَين: الأوّلُ الكتابةُ باللهجةِ المحكيّةِ، والثاني، إلقاءُ الضوءِ على نظرةِ الكاتبِ للمجتمعِ الفلسطينيِّ من ناحيةٍ دينيةٍ وسياسيّة. استوقفني هذا الكتابُ منذُ الصفحةِ الأولى، حين فاحت منه رائحةُ حروفِ اللهجةِ المحكيّةِ، وما تسمّى عندنا أيضًا بالعاميّة. لنْ اقولَ عنها كلمةَ عامّيّةٍ، لأنَّ كلمةَ عامّيّةٍ مشتقةٌ من العوامِ وهم عامّةُ الشعبِ، وفي ذلك حصرٌ للغةِ في طبقةٍ أقلّ قدرًا من غيرِها وهذا لا يجوزُ! وقد نبّهنا من ذلك البروفيسور سليمان جبران في مقالةٍ له بعنوان على “هامشِ التجديدِ والتقييدِ في اللغةِ العربيّة”. فأطلقَ عليها اسمَ “اللهجةَ المحكيةَ” بدلّا من العاميّةِ، حفاظًا على أهمّيّتِها في حياتنا اليوميّة. هذه اللغةُ ليست مجردَ كلامٍ عابرٍ، بل هي اللغةُ التي نترعرعُ ونشبُّ ونشيخُ عليها. نتحدثُ بها في البيتِ والشارعِ خائضين بها كلَّ مجالاتِ الحياةِ، وبها نعبّرُ عن غضبِنا ويأسِنا، عن سعادتِنا وفرحِنا واستيائِنا! هي اللغةُ التي تحاكي المشاعرَ والأحاسيسَ، وحين نكتبُ بها تكونُ متعةُ القراءة أجملَ، فهناكَ الكثيرون الذين كتبوا باللهجةِ المحكيّةِ أمثال الكاتبِ والناقد اللبنانيِّ مارون عبود وغيرُه كثيرون. لكنَّ البعضَ نبذَ هذه اللغةَ مُعتبرًا إيّاها لغوًا ليس له أهمّيّةٌ أو قيمةٌ، كالدكتورِ طه حسين فقد قال عنها “لا أؤمن قط ولن استطيعَ أن أؤمنَ بأن للغةِ العاميةِ من الخصائصِ والمميّزاتِ ما يجعلها خليقةً بأن تسمّى لغةً، وإنّما رأيتُها وسأراها دائمًا لهجةً من اللهجاتِ، قد أدركها الفسادُ في كثيرٍ من أوضاعِها وأشكالِها”. ومما لا شكّ فيه أنّ اللهجةَ المحكيّةَ لا تحكمُها قوانينُ وقواعدُ ثابتةٌ من ناحيةِ الإعرابِ والإنشاء، نظرًا لتعدّدِ اللهجاتِ فيها، فالأمرُ يتعلّقُ ويتأثّرُ بالمنطقةِ الجغرافيّةِ المقصودة. كما يستطيعُ الكاتبُ إدخالَ كلماتٍ اعجميةٍ دونَ أن يثورَ عليه مجمعُ اللغةِ العربيّةِ، طالبًا منه إيجادَ بديلٍ لها، وقد وجدت في نصوص الكتابِ كلماتٍ: سمارت، كومنتاته، على الوول، وغيرها. في كتاب اللوز المُرّ أرى أنَّ الأمرَ مغايرٌ تمامًا، فإنّ اللهجةَ الفلسطينيّةَ المَحكيّةَ زادت الكتابَ رونقًا وتشويقًا، وكان لها من الحسنِ ما يجعلُ القارئَ يدخلُ عالمًا من السحرِ الذي تُغلّفُه الحقيقةُ التي تعيشها النفسُ في بيئتِها الطبيعيّة، ولا ضيرَ لو تركنا اللغةَ الفصيحة بعضَ الوقتِ؛ لأنّها ستبقى محفوظةً في القران الكريم، ولن يخبوَ نجمُها ابدًا مهما ابتعدنا عنها لأنّها لغةُ الله، وستبقى ذلك الإعجازَ الذي جاءَ به الرسولُ صلى الله عليه وسلّم.
الكتابُ عبارةٌ عن قصصٍ قصيرةٍ ومداخلاتٍ، يعرضُ فيها الكاتبُ مآسيَ الشعبِ الفلسطينيِّ من الناحيةِ الاجتماعيّةِ والدينيّةِ والسياسيّةِ والفكريّةِ، وقد جاءت على لسانِ الذكورِ تارةً والإناثِ تارةً أخرى باللهجةِ المحكيّةِ الفلسطينيّةِ وبأسلوبٍ شيّقٍ سلسٍ، فجاءت قويّةً بصياغتِها، وذيّلها بأمثالٍ شعبيّةٍ وعباراتٍ يوميّةٍ ننطقها عندما نكونُ على سجيّتِنا بعفويّةٍ تامّة، كما طغى أسلوبُ الساتيرا، وقد تعمّدَ إدخال هذا النوعِ من الأدبِ، بغيةَ إظهارِ المأساةِ التي يعيشها الشعبُ الفلسطينيُّ بنواقصِهِ وأخطائِه، لتحصلَ المفارقةُ التي تتجسّد في المَثلِ القائل: “شرُّ البليّةِ ما يُضحك”.
نحن نقف أمام كاتب مختلفٍ عن الذين ألفناهم في صدقهِ وسجيّتهِ وتلقائيّتهِ، فرجلاهُ مثبّتتان على الأرض، لم يكتب ليُرضي المجتمعَ أو ليقولوا إنّهُ وطنيٌّ! لم يتغنّ بالعروبةِ ولم يستعملْ أسلوبَ التهييجِ الذي يتّبعُه البعضُ من أجلِ كسبِ الثقةِ والشهرةِ؛ وإنّما همُّه تصوير الواقعِ الذي يعيشُه أبناءُ شعبِه، فنقلَ بقلمِهِ إحباطاتِهم، عُقدَهم، صراعاتِهم النفسيةِ والتناقضاتِ التي يعيشونها من خلالِ هذه القصصِ، وقد أوردَها على لسانِ الشخوصِ بلسانِ المتكلمِ في أغلبِ الأحيان، وهنا تكمنُ جماليّتها، فترى الشخوصَ تُعبّرُ عن ألمِها ومعاناتِها بلسانِها هي، لتتماهى معها كقارئٍ ولتدخلَك الى عالمِها النفسيِّ والاجتماعيِّ، وقد ترى نفسَك كأنك أنتَ البطلُ في هذه القصةِ أو تلك، فتناول مواضيعَ مختلفةً منها: قسوة الأبِ وتسلّطهِ على أسرتهِ، والإيمان المطلق بالنّصيب، والقضاء والقدر، وتأثير الفيس بوك على الشّباب، وانعدام الحوارِ والنقاشِ البنّاءِ، واعتبار الفتاةِ عورةٌ، والعيش في المهجرِ وتأثيرُه على عقليّةِ المسلمين، ومواضيع سياسيةٌ باتت مزعجةً، والإيمان المطلق بما يقالُ، وتأثير الشّائعات وانعدام الاستفسارِ عن الحقائقِ وغيرها. باختصارٍ، نقرأُ ممّا وراءِ السّطورِ أنّ الكاتبَ يُطالبُ بالعدالةِ الاجتماعيّةِ بينَ أفرادِ الأسْرةِ الواحدةِ، وبينَ افرادِ المجتمعِ الواسعِ، ويُطالبُ بتطبيقِ الديمقراطيّةِ وحرّيّةِ الفردِ، حتى لو أنّه لم يصرحْ بذلكَ علنًا،. فها هو يَصفُ شخصيّةَ الأبِ السلطويّ الصارمِ المستبدِّ في قصّةِ “علاء الأزعر” عندما طُردَ من المدرسةِ، وكان عليه أن يُحضرَ وليَّ أمرِهِ معه فقال: “بصراحة، إنّي أجيب أوباما رئيس أمريكا أو حتى أبومازن رئيس فلسطين على المدرسة أسهل بكثير، من أنّي أجيب ولي امري اللي هو الوالد الله يديمه، فأنا علشان يرضى المدير وأبوي ما يعمل مصيبة في الدار أو يضربني أو يطلق أمي، اختصرت وبطلت أروح على المدرسة”. والنتيجة: “لو عرف أبوي إنّي بطلت أروح على المدرسة احتمالين: إمّا انه ينجلط ويموت، أو بيصيبه فالج ويقعد في الدار، أو تطلع عصبيته عليّ، وكالعادة بتيجي في امّي، بروح مطلقها أو بكسر لي إيد أو بقلع لي عين”.
يتطرقُ لموضوعِ الهجرةِ الى بلدانَ أجنبيّةٍ، ويرى أنّ المهجّرينَ تنفتح أمامَهم فرصُ العملِ، وينعمون بالحياةِ الكريمةِ والمالِ والجاهِ، بينما يركضُ الفلسطينيّون وراءَ رغيفِ الخبزِ، والدليل في قصّةُ “خالي عمر” الذي أصبحَ رجلَ أعمالٍ مُهمّ جدّا في أمريكا، يعتاشُ افرادُ أسرتِه في فلسطين على حسابِه من المالِ الذي يُرسلُه لهم، والسببُ في رأي الكاتب أنّه في أمريكا لا يسألونكَ عن دينِك أو جنسِك أو هُويّتِك! بينما هنا ينامون جياعًا بتقوقعهِم وضيقِ آفاقهِم وجهلهِم، لأنّهم يعتبرون أنفسَهم الأفضلَ وبقيّةَ شعوبِ اللهِ كُفّارًا. في موضوعِ الدينِ يُكثرُ من السؤالِ والتساؤلِ، والإنسانُ العاقل ذو فطنة وذكاء لا يمكنُه إلّا أن يسألَ ويتساءل،َ لأنّهُ يُفكّر حتى لو لم يحصلْ على إجاباتٍ شافية. ألم يَقلْ شمسُ التبريزي في قواعدِ العشقِ الأربعين: “رجلٌ لديهِ الكثيرُ من الآراءِ لكن ليسَ لديهِ أسئلةٌ، ثمّةَ خطأ في ذلك. إنّ المرءَ الذي يعتقدُ أنَّ لديهِ جميعَ الأجوبةِ هو أكثرُ الناسِ جهلًا”! ها هو كاتبنا يسأل أبناءَ شعبِه أسئلةً جدّيّة ملؤُها السخرية بمواضيعَ دينيّةٍ وسياسيّةٍ، ولا ينتظرُ لها جوابًا، إنّما يهدف الى لفتِ النظرِ والتفكيرِ في الأمورِ بصورةٍ جدّيّةٍ عقلانيةٍّ، بعيدةٍ كلَّ البعدِ عن سياسةِ أتباعِ القطيعِ في الفكرِ والرأيِ، فيسألُ بأسلوبِه السّاخرِ: “شو بتفكروا حالكم؟ كأنّه الله بس إلكم لحالكم، وكأنّه باقي أهل الأرض خلقهم رب ثانٍ”.
يطرحُ الكاتبُ موضوعَ الإيمانِ والكفرِ والتعصّبِ الدينيّ الأعمى بدعوةٍ مُبطّنةٍ منه، داعيًا الى التسامحِ وتقبّلِ الآخرِ فيقول: “بطلعلك بعض المسلمين العرب بفكرة إنها أوروبا كافرة، وبدو ينشر الدين هناك وكأنه الأخ فاكر حاله موسى بن نصير، وبدو يكمّل فتوحات المسلمين أيّام الدولة العبّاسيّة أو المماليك”. “شو مفكرين حالكم؟ بجدّ مصدقين إنه الله بحبكم أكثر من كلّ أهل الأرض؟ بجدّ.. طيّب احكولي ليش.” ويتساءل بمرارةٍ ويأسٍ عن سبب الحالة التي آلت اليها العروبة في عصرِ الظلمةِ، في ربيعِها العربيّ الذي تحوّلَ الى خريفٍ، بل إلى شتاءٍ باردٍ قارسٍ جفّت منه مشاعرُ الإنسانيّة: طيّب اللي في سوريا اليوم عشو مختلفين؟ طيب المواطن الأوروبّي شو ذنبه يموت في شوارع باريس؟ بس الوحيد هشام ابن عمّه اللي بيعرف الجواب: ذنبهم إنهم السبب في اللي إحنا فيه. طيّب خليهم هم السبب؛ بس الحلّ مش العنف الأعمى بالطريقة هاي، والحل مش بالقتل والتفجيرات بالأسواق والمطارات والمسارح. أمّا ابن خاله لمّا ناقش أبوه في الموضوع قلو بالحرف الواحد: سدّ نيعك لأنك واحد جاهل ومش شايف أبعد من خشمك”. وفي هذه الجملةِ التي قيلت على لسانِ خاله اثباتٌ لحالةِ الجهلِ التي يعيشُها البعضُ، وعدمِ تقبلِ الرأيِ الآخرَ المختلفِ حتى لو كان مدعومًا بالتفكيرِ ومبنيّا على المنطق والعقل.
وفي نصّ “ارفع رأسك أنت مسلم”، يشيرُ إلى موضوعِ اعتبارِ أرضِ العروبةِ أقدسَ أرضٍ، في حين يتمتّع المسلمون بكلِّ اختراعاتِ العالمِ الغربيّ من سيّاراتٍ وطائراتٍ وملابسَ وأحذيةٍ وطعامٍ. فقال على لسانِ الشيخ أبوالرائد الذي يخطب في الناس يوم الجمعة: إنّ أرضَ المسلمين ارضٌ مباركةٌ، أمّا أرضُ السويد وأستراليا وغيرِها أرضٌ نجسة! ورأيهُ في ذلكَ واضحٌ تمامًا: ” أبورائد وأمثاله من الجمعة للجمعة يعملوا جلسات تنويم مغناطيسيّ، علشان نبقى عايشين بالجهل والوهم”! لكنَّ كاتبنا يُجيبهُ بسخريةٍ قائلا: “اترك عمارة الأرض للكفّار العايشين في أمريكا وروسيا وكوريا وأستراليا، ربنا خلقنا عشان نعبده، وهم خلقهم عشان يعملولنا سيّارات وجبنة صفرة، ناكل شوكولاته نوتيلا من تحت إيد الكفّار علشان نشرب بيبسي وريدبول، وفي الآخرة احنا الرابحين، لأنّا رح نلاقي ربّنا بالأركان الخمسة وهم بالآيفون والجلاكسي والسوني، رح يلاقوه في سيّارة بي ام دبل يو ومرسيدس وبيتسا هات وغير ذلك”. هذا الوصف الرهيب للفكر العربيّ المريض لم يجرؤ على خوض غماره إلّا القلائل، فهو شائكٌ مقيتٌ مريرٌ، لأنّه مِن أمرِّ الأشياءِ مناقشةَ جاهلٍ لم يخرجْ من قوقعتِه الفكريّة، هناك كثير من الشواهد جاء بها كاتبنا، ليُثبت كم أنّ هذا المجتمعَ مخطئٌ في قناعاتِه وأفكارِه اتّجاه نفسِه واتّجاهَ العالم. باختصار، في شرعِ هذه الأمّةِ محظورٌ عليكَ أن تفكّرَ بغيرِ ما يراهُ القطيعُ، أو أن تسيرَ عكسَ التيّار.
مداخلة سامي عيساوي: مساء الخير لحيفا وللجميع. هل تُصدّقون أنَّ رجلًا مثلي في أواخر الأربعين، لم تطأ قدماه حيفا رغم أنّها لا تبعد سوى بضعة كيلومترات عن بيته، وفقط عرفتها وعرفت حاراتها وأزقّتها من تحفة غسان كنفاني “عائد إلى حيفا”. مساء الخير للثقافة والأدب، الأدب الذي نطلّ من خلاله على روح الحياة، على أسرار الإنسان المخبوءة، على فرحه وحزنه، على انتصاراته وخيباته، وليس أخرًا على حيرته الوجوديّة. منذ عاميْن تقريبًا، اتصل بي رجل فاضل مستفسرًا عن رواية عيوش التي كانت قد صدرت لتوّها، وطلب الحصول على عدد من النسخ لقراءتها من قبل أعضاء النادي كما قال لي: هذا الرجل كان الصديق المحامي فؤاد نقارة، والنادي كان نادي حيفا الثقافيّ، فيما بعد انضممت إلى القائمة البريديّة للأعضاء النادي، وصار يصلني كافة نشاطات النادي من أمسيات ومقالات ومناقشات، ومنذ ذاك الوقت وأنا أتطلع لحضور امسية من امسياته، أو المشاركة في حفل توقيع أو مناقشة كتاب، حتى جاءت دعوة النادي لي لإقامة هذه الأمسية بمشاركة هذه النخبة الكريمة من المثقفين والأدباء والشعراء، لكن لم أتمكن من الحضور بسبب رفض تصريح الدخول كي أكون حاضرًا بجسدي بينكم، لكنّني اليوم وكلّ خميس مضى كنت حاضرًا بجوارحي ومحبّتي للثفافة والأدب ولكم.
أن تولد وتعيش في بيئة لا تحفل بالثقافة، وبالكتاب يعني أن تولد في العدم، أن تدفع ثمن اختلافك من روحك وصلابة مواقفك ووجودك على هذه الأرض. لقد عرفت الكتاب منذ الطفولة، ربّما لأنّني فشلت في الحصول على الصداقة المثاليّة، وخضت وقتها تجارب انتهت بالفشل والخيبة، فجربت صداقة الكتاب، ومنذ ذلك الحين لم تخني صداقة الكتب، ولم أصب معها بالخيبة أو الندم. هذه الصداقة امتدّت واتّسعت فأصبحت لتكون شغفا لا فكاك منه. لم يكن لديّ في البداية أيّ حلم بالكتابة، وكنت أظنّ حتى وقت متأخر، (حتى بلغت أواخر الثلاثين) أنّ الكتابة خُلقت لأناس لديهم ميزات خاصّة، وهي الأفكار التي امتلأ رأسي بها ممّا قرأت عن حياة الكُتّاب والشعراء، لأدرك بعدها أنّ القراءة وإن كانت ترفًا، هي ليست كذلك في نظري، فإنّ الكتابة ليست ترفًا أو هواية نُسَرّي عن أنفسنا بها وقت فراغنا. أدركت أنّ الكتابة مسؤوليّة وجوديّة، إنسانيّة، أخلاقيّة ووطنية، فاذا امتلكت ناصيتها وأحسست بمسؤوليّتك تلك فلا مناص ولا هروب، بالرغم ممّا تُسبّبه به من مخاضات وتقلبات وألم وخسارات على بعض الأصعدة، إلّا أنّها تصبح مصدر الفرح الوحيد الباقي لك في هذه الحياة. حينها يصبح الكاتب ضمير أمّته والناطق غير الرسميّ باسمها. الكتابة الأدبيّة تحتاج إلى الثقافة هذا صحيح، لكن قبل ذلك تحتاج إلى الحساسيّة المرهفة اتّجاه مسائل الحياة والإنسان، بنفس القدر تحتاج إلى موقف فلسفيّ اجتماعيّ سياسيّ يقف من خلفه الكاتب، ليشاهد هذا العالم ولا يكفّ عن محاولاته لصيانة عطبه الناجم عن الظلم السياسيّ والاجتماعيّ. على إيقاع “عائد إلى حيفا” ومثيلاتها أحببت الأدب والفلسفة والفنّ، فلا يمرّ شهر لا أقرأ فيه عائد إلى حيفا، وذلك كلّما احتجت إلى جرعة إضافيّة من المرارة والحزن والندم والحبّ والصمود”.
عام 2002 وأثناء الاجتياح الإسرائيليّ للضفّة الغربيّة، وكردّ فعل للغضب والقهر والإحساس بالظلم بدأت بكتابة أوّل عمل لي بعنوان” لمّ الشمل”، العمل الذي لم أنتهِ منه حتى الساعة، لأنّني ببساطة ما زلت أعالجه فكريًّا وفنّيًّا، ولأنّني أعتني بالشكل الفنّيّ وأومن بجدليّة العلاقة بين المضمون والشكل الفنّيّ، فكلامها يُملي على الآخر تفاصيله. وعام 2008 كتبت رواية “اللوز المُرّ” والتي تحكي قصّة الخروج المُهين وتفاصيل العيش في مخيّمات اللجوء (ص178-181). أمّا جدّتي فلها ابتسامة ممزوجة برائحة الحنّاء وخلاصة زهر اللَّوز، ولها من المعادن صلابتها ولمعانها، ومن الورد خجله وغيابه، ولي عندها مشاعر تركتها في حجرها وهي تمسّد شعري، وتبكي على يتمي المُبكّر دون أن يُبلّلني دمعها. جدّتي كانت شجرة زيتون قديمة زرعها الإمبراطور الرومانيّ “تراجان” في زيارته الأخيرة للمخيّم، فلها جذور ضاربة في عنادها، لا تأمن التراب ولا غياب المطر. جدّتي لم تكن هي نفسها، وهذه أسطورة أخرى من أساطير العائلة المتعدّدة، فقد استبدُلت بامرأة أخرى لها لون عينيها المعدنيّتيْن، ولها لون بشرتها وطول قامتها وسِعة صدرها، وعلى جبينها الواسع كانت ترتسم خطوط الطول والعرض وجغرافيّة فلسطين. جدّتي تلك بقيت في البيت ورفضت الرحيل. كان حنينها أكبر منها ومن عزمها. جَهد الجميع وقتها في إقناعها بالرحيل عن الخطر، والبقاء بعيدًا عن زخّات الرصاص وحبّات المطر، ومن وقتها وهي تخاف المطر وتعشق صوت الرصاص.
بعناد غامض أصرّت على البقاء. قالوا لها من خلف جفونهم العارية من الصدق: بالكثير، سنعود بعد يومين أو ثلاثة. قالت في عناد النساء الأزليّ الجميل: سأحرس البيت حتى تعودوا. لم تُفلح محاولاتهم في إقناعها بالخروج. رفضت، صرخت، أصَّروا عليها. تمسَّكت بشواهد القبور، بالشاعوب بالمنجل، بحمار الدَار، بالمعلف، ربطت نفسها بشجرة اللوز الهرمة، حضنت خوفها ورجاءها، لكن أنصاف الرجال قطعوا الشجرة، قتلوا حمار الدار، ونثروا الرمل في المعلف، أمسكوا بها من يدها وفقط، استطاعوا أن يقتلعوها من شعرها. في طريقها أخذت عفش البيت وحلق الباب ومكنسة الدار. أخذت الشاعوب والمنجل وطاحونة البيت الرخاميّة. عند الباب الخارجيّ للبيت، انتصبت فجأة في وجه أنصاف الرجال، وبقوّة عشرة رجال أفلتت يديها منهم، حفرت حفرة وغرزت جسدها في ساحة البيت، أطلقت شيئًا من الدخان، وتمتمت بدعاء لم يفهمه أحد. أشاحت بوجهها عنهم جميعًا، وأطلقت بصرها في عُمق السماء. فجأة، خرج منها امرأة أخرى لها منها طول قامتها ولون عينيها. تركها الجميع هناك دون أن يفهوا السِّر ولا طهر القدر. وبقيت جدّتي تلك هناك لا نعرف عنها شيئًا، لا نعرف طعم عجينها ولا رائحة فمها، بقيت مغروسة هناك في قاع البيت القديم تحرس زيتون المواسم، وتقطف الليمون وتطعم الزعتر، ترعى الماشية وتربّي الأرانب وكلب الدّار. تسامر النجوم وتقاوم الغزاة. تُطعم الدوابّ الهائمة عقب الخروج المُهين، وتطبّب جراح الحمام وتؤوي العقارب والأفاعي التي هزّها الحنين. من ماء عينيها تشرب الغربان بعد أن جفّت الينابيع والغدران، وفي المساء يصطفّ على باب منزلها العامر بالفرح عشرات الضالين والجائعين والمرضى، من شتى الأجناس والمذاهب والأديان. هذا رجل قلعت عينه رصاصة. وتلك أضاعت مفتاح الدار وجاءت تقضي ليلتها إلى الغد. يقفان تمامًا في نفس الصفّ الذي تقف فيه نعجة شارفت على الولادة، وليدها يُمزّق أحشاءَها ولا مُعين، ومن فوقهم ترفرف أسراب من الحمام القديم، توقف عن إصدار أصوات الحنين القديمة، واستبدلها بأناشيد الصمود والمقاومة والبقاء.
استطاعت جدّتي القديمة تلك بعينيها المعدنيّتيْن، أن تُشكّل جيشًا جرّارًا من الحيوانات الأليفة، وأن تُدجّن أنواعًا جديدة من الأفاعي والحيوانات المفترسة، كي يساعدوها في إدارة شؤون المملكة البائدة من بشر وشجر وحجر وحيوانات عجماء، سوى من شوقها إلى الدار والجبل ولون الوقت الباقي. بقيت وحدها تُدير المملكة بحنكة الرجال، حتّى يعود الرُّشد الي ملوكها وحكّامها ووزارئها وقادة ألويتها، ويصحوا من غفوتهم الأزليّة. وقتها ستتنازل جدّتي صاحبة العينين المعدنيّتين عن الإمارة لأصحاب السيادة، فهي أكثر الناس زهدًا في الإمارة وأكثرهم إخلاصًا وحُبّا للوطن. تلك كانت رواية اللوز المُرّ.
وفي ظهيرة 27 كانون أول/ ديسمبر 2008، تعلقت أفئدتنا وأبصارُنا في الشاشات لمشاهدة فصل جديد من فصول عنتريّة المُحتلّ ضدّ الشعب الفلسطينيّ، نترقّب ونتألم. أذكر حينها أنّ سؤالًا انتصب في رأسي كمارد جبّار: لماذا يحدث كلّ هذا؟ وأين العالم ممّا يحدث؟ وبقيت طوال أيّام العدوان لا أفعل شيئًا سوى التحديق في وسع الشاشات، لكن هاجسًا غريبًا دفعني ومنذ اللحظة الأولى لتسجيل التفاصيل. أعددتُ ملفّا خاصّا مِن قصاصات الجرائد والتدوينات والمقالات التحليليّة والتقارير المُصوّرة. بقي كيف أقول ذلك في رواية، لقناعتي أنّ الرواية وحدها القادرة على قول الحقيقيّة، وأنّ الفضاء الروائيّ يتّسع لسطر المشاعر وبثّ الأفكار، للتأريخ للتجربة الإنسانيّة برمّتها، وللفرح والألم وجرأة الدم وقسوة الحياة وظلم الإنسان للإنسان. لكن الأمر لم يكن سهلا، فبعدَ أن عرفت ما ستقول وهذا يُعدّ أمرًا سهلًا في أغلب الأوقات، عليك معرفة كيف ستقول ذلك. احتاج الأمرُ أربع سنوات أخرى من الجهد، كي تخرج الرواية بالشكل الذي ترَوْن. أقتبسُ لماركيز: ” قُراؤنا في غير حاجة الى أن نَظَّل نروي لهم مأساة الاضطهاد والظلم؛ فهم يعرفون تفاصيلها غيبًا. ما ينتظرونه من الرواية هو أن تكشف لهم جديدًا”.
وانبثقت فكرة عيّوش الفتاة ذات الستة عشر ربيعًا التي عاشت تفاصيل الحرب، تسردها بوعيها وعلى طريقتها، فجاءت الرواية في ثلاثة فصول، الفصل الأوّل على لسان والد عيوش: “فتحي عبد المعطي رزق عوينات” وأيّ تشابه في الأسماء هو محض صدفة عابرة. الغزّاوي العائد من غربته مع زوجته الإسكندرانيّة الذي أصبح بلا تلد ولا ولد. فعندما يكون المرء بلا ذاكرة كـ”عيوش” أو مَن هم في مثل سنّها، تفاجئهم الحرب وتثيرهم، فيستلهمون من نارها ودمها شعرًا يَخترق رتابة أوقاتهم، تشقيهم وتُنضجهم قبل أوانهم، وأحيانًا تسلب سنوات كثيرة باقية من حياتهم. “عيّوش” التي أكملت ربيعها السادس عشر، ولم تتمكّن من الاحتفال بميلادها لأوّل مرّة بسبب الحرب؛ لم يُكتب في ميزانها الرَّبّانيّ حتى سيّئة واحدة، هي عنوان هذا الكتاب، وهي سطره الأوّل وكلمته الأخيرة.هي رواية الأسئلة المسكوت عنها: “في الحرب؛ عند اشتداد المعارك، عند التحام لحم الجنود بلحم الأرض، عندما تولد النار من بطن الحديد والبارود، ويمتزج لحم البشر بأديم الأرض، تنشب أسئلة وجوديّة بلا عدد، تبقى معلقة في السماء ولا مجيب. أسئلة لا تتّسع لها رؤوس البشر عن الله، عن الحبّ والوطن، عن الغربة والشهادة، عن كرويّة الأرض والألوان، عن الليل والنهار، وعن الجنّة والنار. وأسئلة أخرى صغيرة عن الوجبة القادمة، وعن الرعب الذي يُخلفه اختفاء النهار، عن النوم والصبر، عن “فتح” وعن “حماس”، وعن الثلاثمئة وخمسة وستين فصيلًا المنتشرة على جسد الوطن، وليس آخرًا، عن شعب الله المختار، ولماذ يختار الله شعبًا عن باقي خلقه من بني الأصفر والمجوس والهندوس والزنوج، أو حتى هنود أمريكا. “عيوش” مثلي تمامًا أو أنا مثلها والملايين ممّن يُشاركوننا إنسانيّتنا، نمتلئ عن آخرنا بالأسئلة؛ أسئلة صعبة، صغيرة، ساذجة، زئبقيّة، مُتجددة، تراوح مكانها ولا مُجيب.
الفصل الثاني هو جسد الرواية الحيّ، فقد كتبته عيوش في مذكّراتها: كتبت عيوش في دفتها/ يحدّ غزَّة من الشرق الحرب/ ومن الغرب يحدّها بحر ظالم/ من الشَّمال الجُنون/ ومن الجنوب هرم خوفو الأكبر. السؤال: ماذا يحدّ المعتدي من الأعلى؟ لتواصل عيوش كتابة يوميّات الحرب كما تراها، وهي عادة اكتسبتها من الست وداد مُدرّسة العربيّ، كي تمأ فراغ وقتها، تتبعها في كلّ مرّة بسؤال، على اعتبار “ما دمت أسأل فأنا موجود”: لتتلاحق أسئلة عيوش من قبيل/ ماذا يحدّ المعتدي من الأعلى/ هل يبكي الرجال/ هل تنام النجوم/ متى سينتهي هذا اليوم/ أين يمكن أن أجد صديقا حقيقيّا/ كم تبعد أوسلو عن فلسطين/ هل البندقيّة ضارّة أم نافعة/ كم عدد فصائل العمل الوطنيّ الفلسطينيّ/ لماذا تموت الأمّهات/ عرّف الوحدة الوطنيّة/ وأين يسكن الأمل في بلادنا؟
امّا الفصل الثالث والأخير فقد كتبه الراوي في عشر وقفات: الوقفة السابعة: إعلان عن مسابقة دوليّة تكريمًا لروح عيّوش التي عاشت خوف الحياة وأمنت خوف ما بعد الموت. من يستطيع الإجابة عن هذه الأسئلة كاملة، فليُرسل الإجابات على شكل ملف إلكترونيّ بصيغة “PDF” الى البريد الإلكترونيّ للأمّة “بلاد العرب أوطاني”. الوقفة الثامنة: توزّع الجوائز العشر كالتالي/ الجائزة الأولى: “جنّة عرضها السماوات والأرض أُعِدّت للمُتّقين”./ الجائزة الثانية: “المجد لله في الأعالي وفي الناس المسّرة وعلى الأرض السلام”./ الجائزة الثالثة: الحرّيّة غير منقوصة./ الجائزة الرابعة: الموت وقوفًا كالأشجار./ الجائزة الخامسة: حياة تسرّ الصديق أو ممات يكيد العدا./ الجائزة السادسة: المشاركة في حفل تنصيب الرئيس الأمريكيّ القادم./ الجائزة السابعة: رحلة الى سطح الزهرة لمشاهدة ظلم البشر./ الجائزة الثامنة: رحلة حول العالم للتأكّد من أنّ شعب فلسطين هو آخر شعوب الأرض التي ما تزال ترزح تحت الإحتلال./ الجائزة التاسعة بعد المليار السابع لعدد سكان الأرض: “معلومة هامّة “الفلسطينيون بشر يشبهونكم، لهم أربعة أعضاء، (يدان وقدمان) فم واحد وأذنان اثنتان. وفي شرايينهم دم كدمكم لونه أحمر، في قلوبهم محبّة لكم جميعًا، لكنّ وجعهم يمنعهم أحيانًا من الكلام./ الجائزة الأخيرة: لأخر مخلوق يجلس الآن على كرسيّ هَزَّاز فوق المريخ أو على سطح الزهرة، يُلوِّح لنا بالحضارة: “شكرًا لكم”.
تجربتي الأخيرة كانت مع مجموعة قصصيّة بعنوان “زوجي لعبة تفاعليّة” عام 2016، فالكون يتكوّن من قصص لا من ذرات كما تقول موريل روكسير، هي قصص تعيش بيننا باللغة المحكيّة: “هذه ليست لغتي/ إنَّها لغة أبطال هذه القصص التي تورّطتُ في كتابتها رغمًا عنّي/ حاولت أن أجبرهم على لغتي ومفرداتي المنتقاه بعناية، فاختنقوا واختفوا وآثروا الصمت. إنَّها كلماتهم هم، لغتهم اليومية، إنَّها معاناتهم وخساراتهم، بوْح وجعهم وفشلهم ونجاحاتهم، أحزانهم وأفراحهم الصغيرة. يتكوّن الكتاب من 50 قصّة باللغة المحكيّة.
أعاني كغيري حبسة الكاتب، أحسّ برأسي فارغة من أيّ شيء، فألجأ إلى البحث والكتابة لجيل الشباب الذي أعرف تفاصيل معاناته واحتياجاته، بحُكم قربي منهم على مقاعد الدرس في الجامعة، ومُعايشتي لمشاكلهم ومواطن الإخفاق لديهم. عام 2014 أصدرت كتاب بعنوان “لحياة أكثر إبداعًا”، يتناول معيقات الإبداع وإرشاداتٍ لتجاوز تلك المعيقات، وعام 2016 كتاب بعنوان “تخرج بكفاءة” يعالج موضوعات غير أكاديميّة تواجه الطالب في سني حياته الجامعيّة، لتمكّنه من تجاوز عقبات تأهيله الفكريّ والسلوكيّ والمهارات اللازمة له، كي يخوض سوق العمل وينافس العالم كلّ حسب اختصاصه. لديّ ثلاثة أعمال روائيّة قادمة آمل أن تصدر حتى نهاية هذه السنة. أخيرًا، لا يسعني إلّا أن أتقدّم بجزيل الشكر والامتنان للمجلس المليّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ في حيفا، ولنادي حيفا الثقافيّ على هذه الدعوة الكريمة والعمل الجادّ المسؤول، واخصّ بالشكر مَن أعتزّ بصداقته الأستاذ المحامي فؤاد نقارة وعائلته الكريمة، والشكر موصول إلى الدكتور د. منير توما، والشّاعرة سلمى جبران، الشّاعرة آمال أبو فارس على مداخلاتهم، وللكاتبة عدلة شداد خشيبون على عرافتها للأمسية، وللحضور الكريم فردًا فردًا على صبركم ومحبّتكم للفن والأدب والثقافة.

تصوير المحامي فؤاد نقارة مؤسّس ورئيس نادي حيفا الثقافيّ

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com