صنعوا من أنفسهم اصناما تعبدها الشعوب

بقلم/ إسماعيل الريماوي
لم تعد الكلمات تكفي لوصف ما يجري في غزة، ولم تعد الصور القادمة من هناك بحاجة إلى تعليق، أطفالٌ تُقطع أوصالهم، أمهات يُنتزعن من بين الأنقاض، بيوت تُهدم فوق رؤوس أصحابها، في محرقة يومية تسحق كل معاني الإنسانية، لكن الأكثر فظاعة من الجريمة، هو هذا الصمت الذي أصبح جزءًا من آلة القتل، وهذا التواطؤ العربي الذي لم يعد مجرد تقاعس، بل مشاركة فعلية في خنق غزة، وتشريع المجازر باسم الواقعية السياسية والتعاون الإقليمي.
الحقيقة التي باتت مكشوفة أن هناك حكام لم يعودوا أكثر من موظفين لدى الاحتلال، دمى سياسية لا تتحرك إلا بإذن، ولا تنطق إلا بما يُملى عليها، يتراقصون في حفلات التطبيع، يتفاخرون بعلاقاتهم مع تل أبيب، بينما يتساقط الشهداء يوميًا على أرض غزة، كلما ارتفعت أصوات الاستغاثة، أداروا ظهورهم، وكلما زاد صراخ الأطفال، رفعوا صوت الموسيقى في قصورهم ليغطوا على الدماء.
في ظل هذه المجازر، لا تتحرك الجيوش إلا لقمع شعوبها، لا يُشهر السلاح إلا في وجه من يرفض الخيانة، لا تُشن الحملات الإعلامية إلا على من يدين الاحتلال، ولا يُحاصر إلا من يقاوم، حتى الخطاب الرسمي لم يعد يُجيد تمثيل الغضب الزائف، فالخطب التي تُلقى لم تعد تُقنع أحدًا، بل تُستخدم لتبرير الذل والتخاذل، وذر الرماد في العيون.
غزة اليوم لا تواجه فقط آلة الحرب الإسرائيلية، بل تواجه خنجرًا عربيًا في الظهر، تُجَوَّع بتواطؤ، وتُحاصر بصمت، ويُمنع عنها كل شيء: الدواء، الغذاء، وحتى الأمل، وفي المقابل، تفتح بعض العواصم العربية أذرعها لوزراء الحرب في إسرائيل، وتُعقَد الصفقات التجارية والسياحية والعسكرية، وكأن دماء الفلسطينيين مجرد تفصيل لا يستحق التوقف عنده.
ما يجري ليس سياسة، ولا حتى خيانة بالمعنى التقليدي، بل انحطاط كامل في منظومة القيم. الحكام الذين يسيرون في ركب الاحتلال، ليسوا فقط متواطئين، بل مشاركون في الجريمة، إنهم من يوفرون الغطاء للعدوان، ويضفون عليه شرعية زائفة باسم الواقعية، بينما تُدفن جثث الأطفال في صمت، في عالمهم كل شيء مباح إذا أُرضي السيّد الأمريكي، وكل شيء يُغتفر إذا ضُمّت أرض أو فُتحت سفارة جديدة.
في هذا الزمن الرديء، تم غسل أدمغة الشعوب، وتم شراء الأصوات بالفتات، وتم تسويق الخيانة على أنها شجاعة سياسية، تحوّل الإعلام إلى لسان الأنظمة وأداة لتشويه المقاومين وتلميع العملاء، أصبح الشرف تهمة، والمقاومة جريمة، وأصبحت فلسطين صفقة رابحة يتقاسمها الطغاة، ويأكلون لحمها في مؤتمرات العار.
لكن وسط هذا السواد، تبقى غزة عنوانًا للكرامة، تبقى دماء الشهداء وصمة عار على جبين كل حاكم صمت أو تواطأ أو صافح القَتَلة. ستكتب غزة تاريخًا لا يعرف النسيان، وستذكر الشعوب، ولو بعد حين، من وقف معها، ومن طعنها في خاصرتها.
إنه زمن عبيد العروش، لكن الشعوب لا تموت، والمقاومة لا تُكسر، والتاريخ لا يُزَوَّر طويلًا.

