من غولدا مائير إلى نتنياهو: “صح النوم يا عرب”

بقلم/ أدهم أبو سلمية
في أغسطس/آب 1969، حين أُحرق المسجد الأقصى على يد متطرف صهيوني أسترالي، قضت غولدا مائير، رئيسة وزراء الاحتلال، ليلتها الأولى وهي تتقلب قلقا؛ كانت تخشى أن يستيقظ العالم العربي والإسلامي على جرح القدس، فينهض غاضبا من المحيط إلى الخليج.
لم تنم إلا قليلا، مترقبة ردا قد يغير مجرى الصراع! لكن مع انقضاء اليوم التالي، ومع انحسار الموجة إلى بيانات شجب واستنكار، عادت إلى سريرها مطمئنة إلى أن الخطر قد زال، وأن الغضب العربي يمكن امتصاصه إن ظل محصورا في الكلمات.
بعد نصف قرن تقريبا، في ديسمبر/كانون الأول 2017، وقف دونالد ترامب في البيت الأبيض ليعلن القدس عاصمة موحدة لـ”إسرائيل”.. كان يعرف أن الخطوة تمثل خرقا فاضحا لكل قرارات الشرعية الدولية، وأنها تمس جوهر القضية الفلسطينية.
قيل له إن العالم العربي سيشتعل، وإن العواصم الإسلامية ستغلي، لكنه وجد المشهد ذاته: غضبا ورقيا، بيانات، خطابات في المؤتمرات، ثم عودة إلى الروتين؛ فاطمأن أكثر، وتجرأ بعدها على توقيع مرسوم ضم الجولان المحتل إلى السيادة الإسرائيلية، وكأنه يختبر حدود الصمت ويجدها أوسع مما ظن.
واليوم، يتكرر المشهد مع بنيامين نتنياهو، وهو يعلن بوضوح غير مسبوق أن إقامة “إسرائيل الكبرى” هي مهمته التاريخية والروحية.
لا يخفي الرجل خريطته، ولا يكتفي بالحدود التي اغتصبها من فلسطين، بل يمد نظره إلى لبنان، وسوريا، والأردن، وأجزاء من مصر، والسعودية، والعراق، والكويت.. يفعل ذلك في ذروة حرب إبادة على غزة، وفي ظل ممرات تطبيع مفتوحة، وركود عربي رسمي لا يقطع طريقا ولا يغلق سماء.
هنا تتضح القاعدة التي يدركها أعداؤنا أكثر مما ندركها نحن: أن الغضب العربي ما دام محصورا في البيانات، مهما بلغت حدته، فهو غضب يمكن احتواؤه وتجاوزه، بل والبناء عليه لابتلاع مساحات جديدة من الأرض والسيادة والقرار.
نحن أمام حقيقة مرة، وهي أن الاكتفاء بردود الفعل اللفظية لا يوقف مشروعا توسعيا، بل يمنحه الوقت والمساحة ليكتمل، ويمنحنا وهْم أننا فعلنا شيئا، بينما نحن في حالة إلهاء جماعي.
اليوم، لسنا بلا خيارات، لسنا بين الحرب الشاملة والاستسلام المطلق، نحن نملك مساحة واسعة من الفعل تقع بينهما، إذا توفرت الإرادة السياسية والجرأة.. نملك القدرة على إلغاء اتفاقيات السلام الوهمية، التي تحولت إلى غطاء لتمدد الاحتلال.
على الصعيد الشعبي، يمكن أن يتحول الدعم العاطفي إلى فعل مؤثر: مقاطعة اقتصادية وثقافية وأكاديمية شاملة، حملات منظمة لملاحقة مجرمي الحرب الصهاينة في المحاكم الدولية، ضغوط جماهيرية على الحكومات لوقف أي تعامل مع كيان يرتكب الإبادة ويخطط لابتلاع المنطقة.
التجارب التاريخية، من جنوب أفريقيا إلى فيتنام، تثبت أن إرادة الشعوب إذا نُظّمت قادرة على فرض التراجع حتى على أكثر المشاريع الاستعمارية شراسة.
لكن الأهم أن ندرك أن هذه ليست معركة على فلسطين وحدها، بل على شكل المنطقة كلها.. إذا انكسرت غزة، فلن تبقى القدس وحدها تحت الاحتلال، ولن تكون سيناء أو الجولان أو الأنبار أو تبوك في مأمن. مشروع “إسرائيل الكبرى” بطبيعته لا يعرف الاكتفاء، وكل خطوة يتجاوزها الصمت تتحول إلى قاعدة للخطوة التالية.
إن ما يجمع بين غولدا مائير في تلك الليلة التي أعقبت حرق المسجد، وترامب في قراراته، ونتنياهو مع تصريحاته اليوم، هو أنهم جميعا خاضوا اختبارا واحدا لرد الفعل العربي والإسلامي، ووجدوا النتيجة ذاتها: نوما مطمئنا بعد ضجة مؤقتة!
الفارق أننا هذه المرة لسنا أمام اختبار جديد، بل أمام الشوط الأخير من معركة وجودنا. وإذا لم نرتقِ من مستوى البيان إلى مستوى الفعل، فإننا نكتب بأيدينا خاتمة لا نريد قراءتها.
