كتابات

جمعة الحلاوة

لماذا يرجع أبي من صلاة الجمعة مغموما?ٍ ?
لماذا لم يعد أبي مبتهجا?ْ بعد عودته من صلاة الجمعة ? كما تعودناه ? إنه يأتينا بوجه مقلوب ? مكفهر ? ضيق النفس ? يتقارح مثل طماش العيد وأكثر. للجمعة ذاكرة طرية من طين وريحان .. ففي طفولتي ويفاعتي حملت الجمعة في بيتنا بهجة وسرورا?ٍ? فصبوح الجمعة «فتة» خبز طاوة بالسمن البلدي ? وغداؤنا دسم ? حيث يلتم كالعادة على مائدتنا المتواضعة والمفتوحة أناس فقراء ? جلهم بلا أهل .. يذهب أبي الى مسجد الكويت في حينها وهو في كامل أناقته ? ويبخ رشات من عطر الكولونيا ذي الحضور الأنيق ? ولا ينسى عشب الريحان يغرسه في مشدته البيضاء .
وبعد الانتهاء من الصلاة يعود حاملا?ٍ الحلاوة الحمراء الساخنة والهريسة ? كذلك الحلاوة البيضاء ( المضروب) .
بعد أن ننهي غداءنا تكون أمي قد لبست أحلى ماعندها ? وتزينت وتشقرت ? فقد حان وقت المقيل ? وقد يأتي في بعض الجمع بعض الجيران والأصدقاء مع زوجاتهم وأبنائهم ليشاركوا أسرتنا المقيل وأطفالهم اللعب معنا .
البهجة والأنس سيدا ديوان بيتنا المتواضع ذي الفرش والمساند التبن والقطن .
##
في جمعنا القديمة لم أر أي رجل أو أي طفل يحمل سجادات ? ويتلوى بها في الشوارع ? ويستعرض بها ? تارة يعتمرها ك«مشدة» ? وتارة يعلقها على كتفه ? وبنفس الطريقة يعجن المسواك في فمه ? والعطر العربي الثقيل الباعث على الشقيقة ? ويزاحم هذا الديكور المرصوص وجه غضوب بملامح جادة وقاسية .. وكأن الوجه المبتهج سينقض صلاة الجمعة ? وسيحول المصلي الى إنسان مشكوك في دينه وإيمانه .
##
عندما كانت المساجد قليلة ونوعية ? وتختار أئمتها بعناية واقتدار .. كنت أرى المصلين يلمعون نظافة برغم ظروف الفقر ? تسبقهم وجوههم المرحة البشوشة الضاحكة ? ولم نسمع باختفاء حذاء أي مصل?ُ ? ولم نسمع الخطب الميكرفونية الباثة للكراهية ? وأن كل ما حولنا أعداء ? عبر أدعية على شاكلة : اللهم أهلكهم ? وأسبي نساءهم ..وو ( هذا دعاء الج?ْمع التي أسمعها منذ أكثر من عشرين سنة ? والجميع يردد :آمين)
في جمعة أبي والآباء في : حوض الأشراف وسوق الصميل والشماسي وشعب الدباء ? والكمب ? وشارع جمال وعصيفرة ..وو لم أجد أي جمع مشهدية الحضور والثقافة ? حيث تترك المصلى داخل الجامع ? وتنزل الشارع فتغتصبه كما تغتصب الرصيف ? واشارة المرور ? والصيدلية والمشفى ? ولعبة نط الحبل ? فيتسابق زعيق الخطب بتراجيديا دامية ? خطب تتشابك وتتضارب في المساجد الكبيرة ? والمساجد الصغير المتناثرة في الأحياء والأزقة حيث الألف مئذنة ? والمليون خطيب ? حيث المنابر تتصارع لتتحول الى ساحات حرب ناحرة ومنحورة لأبناء الحي الواحد ? ج?ْمع وجوامع تتقاتل بنا باسم الله وكأن الله م?ْلك لهذه الفئة وحدها ? لقد جعلوا الله والقرآن ساحات مشتعلة ? فتحت كل سجادة صلاة موقدا?ٍ مشتعلا?ٍ بجمر الكراهية ? ج?ْمع “المكارحة” ? و«الله ماكانت ولا سبرت » جمع «بيضتي ولا الديك » جمع «إما أنا ? وإما أنا ? وبعدي الطوفان » ? جمعة تأتي ثقلها من كم الكراهية والحقد والتخوين والتكفير والتعصب? جمعة اختزال الجموع في واحد ? جمع الحرائق بلا مبالغة? فما أن تنتهي خطبة الجمعة اذ يحمل الكل انفجاراته في وجه الكل ?وهذا مع الأسف المطلوب تحققه في جمعنا ? وخصوصا?ٍ الجمع المليونية التي مازالت تسكب كل
ألوان الكراهية والثارات والانتقامات ? لتنفلق حياتنا بالفرقة الناجية ? والفرق النارية وفي النار..
##
أشاهد الأطفال بعد خروجهم من الجوامع في شارعي ? حيث تسمعهم ? شفتم الحوثيين على كفرة ? وشفتم الإسماعيليين أيش يعملوا في أعيادهم (…) والقيامة بتقوم بعد بكرة لأن النساء يزاحمين الرجال في الشارع والسوق وو.. سمعتم ?أيش قال خطيب جمعتنا عن الزنادقة والمرتدين الذين يدخلون الحمام برجلهم اليمنى .. ناهيكم عن عدد المعارك التي قاتلت فيها الملائكة مع جنود الله ? والحق ? وكتائب الرحمن مع الفرقة الناجية ? كيف أن الطيور هزمت الصواريخ ومضادات الطيران ?وو..الخ .
##
حدقوا معي في وجوه المصلين قبل وبعد صلاة الجمعة: وجوه مكفهرة كأنها خارجة من قبور أو مطاردات لملوك الجن في أودية وجبال الرعب لممالك هازمة ومهزومة ?وجوه (غبرة دبرة) من لهاث الكر والفر في صحراء الغبار والقيظ ? وجوه مفزوعة كأنها خرجت لتوها من مشاهدة أفلام الرعب ? المصلي هو كل ذلك مع رتبة خائف ? مهزوم ? متقزم ? يحمل نفسا?ٍ ملغومة بالغم ? وانغلاق الحياة والأفق ? المصلي هو ذلك الشيء ? ولا شيء ? لا أجد وصفا?ٍ لهذا الجمع سوى انها جمع القبور. .
##
مازال أبي حتى اليوم يأتي بالحلاوة والهريسة ? بل والمزودة باللوز والفستق ? لكن بلا طعم ? حيث يعود بوجه متجهم .. يأتي يصب على مائدة الغداء عشرات المذابح والمهالك ? والأمبراطوريات التي انتهت لأنها لم تصل الفجر أو أنها لم تبسمل ولم تحوقل ? ولم تتبرع بمائة ريال لغزة أو الشيشان أو تنكا بلاد النامس ..الخ يسكب أبي أخبار الجثث والأشلاء ?فتصبح لقمة العصيد مشحونة بألفاظ ? مادريتمش

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com