اراء وتحليلات

أثر النسق الثلاثي الكوني على تكوين الحياة والعقيدة الإنسانية وملامح الإمتدادات الحديثة!

بقلم/ هايل علي المذابي

في البدايات الأولى لهذا الكون لم يكن ثمة هيئة أو لون لملامح تلك البدايات.

كان الثبات هو المبدأ الذي يحكم هذه الحالة الأولى قبل انتقال الكون إلى حالة تشكل الوعي والعقل المحض الذي يحكم تفاصيله ويديره.

هذا العقل المحض يقوم على ثلاث حالات ويجسدها العقل البشري وتجسدها النفس البشرية ودوافع استمرارية الحياة وتجددها.

فالعقل المحض له حالة أولى هي الرغبة في الفعل للانتقال من حالة الفناء وهي حالة فناء من حيث انتهاء العقل من استهلاك تفاصيلها مهما بدت جيدة والبدايات الأولى كانت من حيث العدمية لا تعني المعنى الحرفي لهذا المصطلح ولكنها تعني انتهاء الإنسان من استهلاكها ومعرفة تفاصيلها حتى وصلت إلى هذه الحالة التي تسمى عدما وفناء حفزت بذلك العقل على الرغبة على الانتقال إلى الحالة الأولى التي تجسد العقل وهي حالة الرغبة والاستعداد للفعل التغييري وهي ذاتها حالة الوعي الكوني الذي انتقل من حالة الثبات على حالته الأولى التي لا هيئة لها ولا لون بعد استهلاكها كمبدأ إنتقالي محكوم به هذا الكون فكانت الانتقالة إلى حالة الصفر والفعل التغييري القائم على الرغبة حالة خلقت المكونات الأولى لتفاصيل الكون الذي نعيش فيه فتهيئت أول ممالك هذا الكون وهي مملكة الطبيعة وتفاصيلها ويقابلها السديم المعتم الذي كان الكون مسجونا فيه ثم انتقل الكون للحالة الثانية وهي حالة انسلاخ من سديم العتمة وتفاصيلها فوجد النور وانطلاقات مخلوقات هذا العالم وهي ذاتها التي تعيش فيه حتى الان أما عالم السديم المظلم فكان مسكونا بالحياة بكائنات لا تعيش في غيره مهما تعددت عوالم هذه العتمة وتفاصيلها فالليل له كائنات لا تستطيع العيش في غيره وهي جزء من تفاصيل ذلك العالم المعتم عاشت فيه أولا قبل انتقال الحالة إلى ظلام ونور والبحار جزء أصيل من مكونات العتمة وكائناتها لا تستطيع العيش في النور ولزومها اغوار البحار تعبير عن ذلك وليس عن عدم قدرتها على التعايش مع النور.

والعقل في ثاني حالاته هو تعبير عن ذلك الانتقال الى حالة تفترض التقليد والمحاكاة في آن لتلك المخلوقات والممالك من طبيعة في الحالة الأولى وحيوانات في الحالة الثانية لتكون الحالة الثالثة هي الخلق والإبداع لدى الكائن البشري في مراحل العقل المحض الثلاث.

لقد فطنت الحضارات القديمة إلى هذا السر القائم في هذه الثلاثية فتبنت الفكرة في تفاصيل معتقداتها ويمكن أن نلاحظ ذلك بسهولة في نقوشها وآثارها وما خلفته من ملامح لحضارتها.

فالحضارات الهندية القديمة وفلسفاتها تعبر عن ذلك بالثلاثة مما تعبده من آلهات وهي شيفا وفيشنو وكريشنا ولدى الفراعنة كانت الأهرمات المثلثة تعبيرا عن هذا المقدس وكذلك كل نقوشها التي لا تكاد تخلو من مثلث يحيط بالآلهة أو الملك وفي البناء نجد قوس النصر في باريس وباب اليمن في مدينة سام يتخذ ذات الطابع وكذلك القمرية التي تعلو النوافذ في نمط العمارة اليمنية هي مثلثة أما التقويس الذي يخيل لنا أن هذه الرموز المعمارية دائرية أو نصف دائرية فهو تعبير عن حالة تلاقي اضلاع المثلث بما يتوافق مع ضروريات الهندسة المعمارية، والقمرية وفق هذا النسق تصبح تعويذة للمنازل وحماية لها من الشرور فهي تجسد فكرة الألهات الثلاث وترمز لها، وكذلك نجد تعبيرا قائم على التمييز في تفاصيل النجمة اليهودية التي هي مثلثان احدهما مقلوب ورأسه في الأسفل والآخر رأسه في الأعلى لتجسيد حالة العلو والتكبر حيث ان الديانة اليهودية تعتبر نفسها اصلها وكذلها العبرية في الحضارات السامية، وهذا يجسده رأس المثلث في الأسفل ورأس المثلث الأعلى يعبر به عن حالة السيادة المطلقة والأزلية لهذه الديانة والحضارة.

وفي المسيحية نجد الثالوث المقدس الله والروح القدس والمسيح تعبيرا عن هذا الامتداد العقائدي.

ولدى المسلمين نجلد ثالوثا قائما على كتاب الله وسنة نبيه ومأثورات صحابته واتباعه أو نهج آل البيت عند الشيعة.

وفي الجاهلية للحضارة العربية كانت اللات والعزى وهبل وفي الحضارات التي سبقتها كان يغوث ويعوق ونسرا على ذات النسق تعبيرا عن هذا الثالوث. وهكذا كل الحضارات والديانات.

ويمكننا رؤية هذه الفكرة بوضوح في احتواء الأغنية الشعبية اليمنية الواحدة مثلا لثلاثة ألحان أو كما تسميها العامة ثلاث “قلبات” مثل أغاني رقصة المزمار أو رقصة البرع والتي انتقلت لاحقا إلى أغاني العود واشتهرت به أغاني التراث، هي فكرة قديمة جدا بدأت في العصور السبئية والحميرية وما قبلها أيضا حيث يمثل كل إيقاع من الثلاثة لحنا خاصا بواحد من الآلهة والتي كانت ثلاثية مثلما أشرت، وقد كان الرقص الذي يفرضه اللحن الثلاثي المتغير بمثابة نوع من الصلاة للآلهات الثلاث بطلب الحماية من الشرور للمحتفى به سواء كان عريسا او غيره.

إن طبيعة المعرفة الإنسانية واكتسابها تتضمن هذا السياق ذاته حيث تبدأ بالشك ثم البحث ثم اليقين والتعاطي مع المعرفة واكتسابها هو ثلاثي في سياقاته أيضا وقائم على ثلاثية تعاطفية تسبق كل حالة معرفية والتفاعل معها وهي التعاطف الحركي والتعاطف الوجداني والتعاطف الإدراكي لتتحقق بتوافرها عملية المشاركة وهي ذات السيكولوجية الخاصة في التعاطي مع العلوم والفنون بكل أنواعها ومشاركتها.

وإذا كانت المشاركة هنا تجسد الصيرورة النهائية وأرقى مراتب المعرفة الإنسانية فإن هذه الحالة تجسد حالة الإبداع والخلق أعمق حاجات العقل البشرية مرورا بالحالات الثلاث الرغبة والتقليد والمحاكاة انتقالا الى حالة الإبداع التي هي مزيجا خاصا من كل المراحل لإنتاج معرفة بيضاء خالصة تشبه حالة الشيء الخالق لنفسه من اللا شيء. ومستوى المشاركة أعلى مراتب المعرفة يفترض في تفاصيله حالة من المعرفة البيضاء القائمة على مشاركة تفاصيل كل موجودات الكون في هيئة منتج واحد يتضمن جميع سياقاتها ويعبر عنها كما يعبر الكيان البشري عن كل امتدادات هذا الكون وتفاصيله. ويمكن التعبير عن ذلك بالقول “إن كل شيء هو إمتداد لشي واحد وموجود فيه وموجودات هذا الشيء وتفاصيله موجودة في كل شيء.”.

إن العلوم في معظمها قائمة على حالة ثلاثية الحركة يمكن رؤيتها بوضوح في علم الحساب الذي له أساس واحد وهو ثلاثة أرقام 1 2 3 وكل ما يأتي لاحقا هو امتداد لهذه الثلاثية الحسابية.

حتى حالة الولادة والموت تتضمن هذه التفاصيل الثلاثية فالحياة هي في سيرتها الأولى لدى الكائنات رغبة ثم حمل ثم ولادة والحياة بالمثل طفولة شباب شيخوخة والإمطار تهطل بذات السياق وتفاصيله والنبات ينمو بذات الحالة والشمس ووجودها يتضمن ثلاث مراحل لا يختلف عنها الليل والوجود القمري فيه عن سياقاتها.

وبالعودة إلى سياقات المراحل الأولى من تفاصيل الكون نجد ثلاث ممالك قد تكونت وهي مملكة النبات ويمثله من الألوان الثلاثة الرئيسية اللون الأخضر ومملكة الحيوان ويمثلها اللون الأحمر من الألوان الرئيسية الثلاثة ومملكة الإنسان ويمثلها اللون الأزرق من الألوان الرئيسية الثلاثة والأزرق على حد قول بوذية التبت هو لون أول كائن فاض عن طبيعتنا الأولى التي لا هيئة لها ولا لون ويقابلها البحار واليابسة والسماء.

ولهذه الثلاثية ناموس يحكمها فالثبات الذي كان سمة الحالة الأولى للكون التي لا هيئة لها ولا لون انتقل إلى سياق آخر بعد الانتقال إلى حالة السديم المعتم وهو ثبات كل موجودات الكون على مبدأ التجدد والفناء والموت والولادة وثبات الصراع في سياقات الحياة في عوالم الوجود الثلاث لإنتاج ديمومة واستمرارية تشكل صيرورة الحياة والموت بشكل مطلق.

إن كوكب الأرض كروي بطبيعته لكن هذه الكروية محكومة بثلاث محتويات تمثل مثلثا يحفظ توازن استمرارية دوارنها ويحكم موازينها من حيث عدم حدوث كوارث في مكوناتها الأساسية وهي البر والبحر والسماء وهي محكومة في هذا التوازن وعدم التداخل فيما بين هذه الثلاث بوجود ضغط ثلاثي للهواء له ثلاثة محاور الأول يحكم البحار وامتداداتها والثاني يحكم البر وامتداداته والثالث يحكم عدم وقوع السماء وتداخل تفاصيلها مع الأرض ويمثل ما تحت الأرض حالة وجود بسيطة بالنسبة للحجم الكلي للأرض وما فوق سطحها ثم يأتي هذا السطح ليكون تفاصيل وجود البر والبحر وفوقه السماء وتضمها جميعا حالة من الوجود الشفاف الذي يعطي في المجمل شكلا كاملا للكروية التي تعبر عن هذا الكيان الوجودي وفي هذا الوجود الشفاف طبقة تحمي عدم تداخل غازات الوجود الخارجي لهذا الكوكب وهي خليط من النيتروجين والكربون وغير ذلك مما لا يمكن للبشر احتمال العيش في وجوده أو تتناسب حالة مكونات الموجودات للعيش مع مكونات تلك الغازات.

عندما تتداخل هذه الغازات نتيجة لتوسع الثقوب في غلاف الأرض الشفاف يحدث إنخفاض في مستوى الضغط الموجود في الحالة الثلاثية فتتداخل حالة البحار مع حالة اليابسة فتفيض محتويات البحار لإنها سائلة على حالة البر التي هي جامدة وتهدد بإنقراض مساحات شاسعة من الوجود اليابس وبالمثل ينخفض الوجود الأعلى للأرض لتصبح الحرارة والمناخ في حالة لا تتناسب مع القدرة البشرية والحيوانية والنباتية على الاحتمال.

كيف تحدث مثل هذه الاختلالات في هذا المثلث اللا مرئي الذي يحفظ هذه الثلاثية المكونة للوجود الأرضي؟

تحدث هذه الاختلالات كنتيجة طبيعية لممارسة قائمة على استنزاف ما تقوم عليه هذه الصيرورة المتجسدة على سطح الأرض وهي تشبه الأساس الذي تبنى عليه البنايات لكن ليس هذا فقط بل إن السر يكمن في تفاصيل ومكونات هذه الأساسات فيما تحت الأرض بشكل كبير ثم استنزاف المكون البري ومحتويات الطبيعة وهي المملكة الأولى من أشجار وغابات وأنهار وموجودات المملكة الثانية وهي مملكة الحيوان ومكونات البحار وكائناتها وتسميم الوجود البحري بالنفايات والعضويات والبتروليات ثم يكون الاستنزاف الثالث الذي يجسد أسباب عملية الاختلال كاملة هو استنزاف الكائن البشري واستهلاك تفاصيله بكافة الاشكال.

وهذه الثلاث هي امتداد لأضلاع المثلث وتوازنها يعني توازن حالته ما يعني بقاء حالة الكوكب الأرضي المناخية والبيئية في حالة مثالية او في السياقات الطبيعية التي تقوم عليها حالته وفقا لمقتضيات النواميس التي بني عليها وتعمل على تسيير شؤونه.

إن هذه المكونات وتفاصيلها هي فقط ما يحفظ هذا التوازن الوجودي إلى أعلى حد ولنا أن نقارن بين عصور ما قبل النفط وما بعدها أي عصور الاعتماد على القوة البشرية وعصور الاعتماد على الآلات وما تتطلبه من استنزاف لمكونات ما تحت الأرض وما فوقها مما يتم استخراجه من اشجار الغابات من مستلزمات وغير ذلك من مواد عضوية كالزيوت ومستحضرات الزينة والتجميل والورق. وغير ذلك الرغبة الانتاجية المتعاظمة نتيجة ازدهار الآلة الصناعية في وفرة الانتاج الحيواني الذي يعتمد على استنزاف الطبيعة بخلاف الممارسة القديمة القائمة على التعاطي مع هذا الوجود وفقا للطبيعة الأولى وتفاصيلها للإنتاج الحيواني. وهو لا يختلف في طريقة الانتاج النباتية القائمة على التحفيز بالمواد الكيميائية والعضوية التي هي مكونات نتاجها أكثر سلبية من الإيجابية حيث تظهر آثار ذلك بوضوح فيما تخلفه على الكائن المستهلك بشريا أو حيوانيا من أمراض توصف بالعصرية المستعصية على اكتشافات طبية نهائية بخصوصها. وفي تفاصيل هذه الدورة الانتاجية والاستهلاكية تعبير واضح عن اسباب النتائج التي يعيشها هذا الكوكب وتفسير لاختلالاته.

Strings1983@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com